يقول تعالـى ذكره: نُودي موسى:
{ { أن يا موسى إنِّـي أنا اللّهُ ربُّ العَالَـمِين. وأنْ ألْقِ عَصَاكَ } فألقاها موسى، فصارت حية تسعى { فَلَـمَّا رآها } موسى { تَهْتَزُّ } يقول: تتـحرّك وتضطرب { كأنَّها جانّ } والـجانّ: واحد الـجِنَّان، وهي نوع معروف من أنواع الـحيات، وهي منها عظام. ومعنى الكلام: كأنها جانّ من الـحيات { وَلَّـى مُدْبِراً } يقول: ولـى موسى هاربـا منها. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة { وَلَّـى مُدْبِراً } فـاراً منهَا، { ولَـمْ يُعَقِّبْ } يقول: ولـم يرجع علـى عقبه.
وقد ذكرنا الرواية فـي ذلك، وما قاله أهل التأويـل فـيـما مضى، فكرهنا إعادته، غير أنا نذكر فـي ذلك بعض ما لـم نذكره هنالك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة { ولَـمْ يُعَقِّبْ } يقول: ولـم يعقب، أي لـم يـلتفت من الفرق.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ { ولَـم يُعَقِّبْ } يقول: لـم ينتظر.
وقوله: { يا مُوسَى أقْبِلْ وَلا تَـخَفْ } يقول تعالـى ذكره: فنودي موسى: يا موسى أقبل إلـيّ ولا تـخف من الذي تهرب منه { إنَّكَ مِنَ الآمِنِـينَ } من أن يضرّك، إنـما هو عصاك.
وقوله: { اسْلُكْ يَدَكَ فِـي جَيْبِكَ } يقول: أدخـل يدك. وفـيه لغتان: سلكته، وأسلكته { فِـي جَيْبِكَ } يقول: فـي جيب قميصك. كما:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة { اسْلُكْ يَدَكَ فِـي جَيْبِكَ }: أي فـي جيب قميصك.
وقد بـيَّنا فـيـما مضى السبب الذي من أجله أُمر أن يدخـل يده فـي الـجيب دون الكمّ.
وقوله: { تَـخْرُجْ بَـيْضَاءَ مِنْ غيرِ سُوءٍ } يقول: تـخرج بـيضاء من غير برص. كما:
حدثنا بشر، قال: ثنا ابن الـمفضل، قال: ثنا قرة بن خالد، عن الـحسن، فـي قوله: { اسْلُكْ يَدَكَ فِـي جَيْبِكَ تَـخْرُجْ بَـيْضَاءَ مِنْ غيرِ سُوءٍ } قال: فخرجت كأنها الـمصبـاح، فأيقن موسى أنه لقـي ربه.
وقوله: { وَاضْمُـمْ إلَـيْكَ جَناحَكَ } يقول: واضمـم إلـيك يدك. كما:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عبـاس { وَاضْمُـمْ إلَـيْكَ جَناحَكَ } قال: يدك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن لـيث، عن مـجاهد { وَاضْمُـمْ إلَـيْكَ جَناحَكَ } قال: وجناحاه: الذراع. والعضد: هو الـجناح. والكفّ: الـيد، { اضْمُـمْ يَدَكَ إلَـى جَنَاحِك تَـخْرُجْ بَـيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ }.
وقوله: { مِنَ الرَّهْبِ } يقول: من الـخوف والفرَق الذي قد نالك من معاينتك ما عاينت من هول الـحية. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله { مِنَ الرَّهْبِ } قال: الفَرَق.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة { وَاضْمُـمْ إلَـيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ }: أي من الرعب.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { مِنَ الرَّهْبِ } قال: مـما دخـله من الفَرَق من الـحية والـخوف، وقال: ذلك الرهب، وقرأ قول الله { يَدْعُونَنا رَغَبـاً وَرَهَبـاً } قال: خوفـاً وطمعاً.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل الـحجاز والبصرة: «مِنَ الرَّهَب» بفتـح الراء والهاء. وقرأته عامة قرّاء الكوفة: «مِنَ الرُّهْبِ» بضم الراء وتسكين الهاء، والقول فـي ذلك أنهما قراءتان متفقتا الـمعنى مشهورتان فـي قرّاء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: { فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ } يقول تعالـى ذكره: فهذان اللذان أريتكهما يا موسى من تـحوّل العصا حية، ويدك وهي سمراء، بـيضاء تلـمع من غير برص، برهانان: يقول: آيتان وحجتان وأصل البرهان: البـيان، ويقال للرجل يقول القول إذا سئل الـحجة علـيه: هات برهانك علـى ما تقول: أي هات تبـيان ذلك ومصداقه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ { فَذَانِكَ برهانانِ مِنْ رَبِّكَ } العصا والـيد آيتان.
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قول الله { فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ } تبـيانان من ربك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق { فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ } هذان برهانان.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبكَ } فقرأ: { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } علـى ذلك آية نعرفها، وقال: برهانان آيتان من الله.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { فَذَانِكَ } فقرأته عامة قرّاء الأمصار، سوى ابن كثـير وأبـي عمرو: { فَذَانِكَ } بتـخفـيف النون، لأنها نون الاثنـين، وقرأه ابن كثـير وأبو عمرو: «فَذَانِّكَ» بتشديد النون.
واختلف أهل العربـية فـي وجه تشديدها، فقال بعض نـحويّـي البصرة: ثقل النون من ثقلها للتوكيد، كما أدخـلوا اللام فـي ذلك. وقال بعض نـحويّـي الكوفة: شددت فرقا بـينها وبـين النون التـي تسقط للإضافة، لأن هاتان وهذان لا تضاف. وقال آخر منهم: هو من لغة من قال: هذا قال ذلك، فزاد علـى الألف ألفـا، كذا زاد علـى النون نونا لـيفصل بـينهما وبـين الأسماء الـمتـمكنة، وقال فـي ذانك إنـما كانت ذلك فـيـمن قال: هذان يا هذا، فكرهوا تثنـية الإضافة فأعقبوها بـاللام، لأن الإضافة تعقب باللام. وكان أبو عمرو يقول: التشديد فـي النون فـي { ذَانِكَ } من لغة قريش { إلـى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } يقول: إلـى فرعون وأشراف قومه، حجة علـيهم، ودلالة علـى حقـيقة نبوّتك يا موسى { إنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فـاسِقِـينَ } يقول: إن فرعون وملأه كانوا قوما كافرين.