التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ
٨١
-آل عمران

جامع البيان في تفسير القرآن

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبـيـين، يعنـي حين أخذ الله ميثاق النبـيـين، وميثاقهم: ما وثقوا به علـى أنفسهم طاعة الله فـيـما أمرهم ونهاهم. وقد بـينا أصل الـميثاق بـاختلاف أهل التأويـل فـيه بـما فـيه الكفـاية. { لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ } اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الـحجاز والعراق؛ { لَمَا ءاتَيْتُكُم } بفتـح اللام من «لـما»، إلا أنهم اختلفوا فـي قراءة آتـيتكم، فقرأه بعضهم { ءاتَيْتُكُم } علـى التوحيد، وقرأه آخرون: «آتـيناكم»، علـى الـجمع.

ثم اختلف أهل العربـية إذا قرىء ذلك كذلك، فقال بعض نـحويـي البصرة: اللام التـي مع «ما» فـي أوّل الكلام لام الابتداء، نـحو قول القائل: لزيد أفضل منك، لأن «ما» اسم، والذي بعدها صلة لها، واللام التـي فـي: { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } لام القسم، كأنه قال: والله لتؤمننّ به، يؤكد فـي أول الكلام وفـي آخره، كما يقال: أما والله أن لو جئتنـي لكان كذا وكذا، وقد يستغنى عنها فـيؤكد فـي لتؤمننّ به بـاللام فـي آخر الكلام، وقد يستغنى عنها، ويجعل خبر «ما آتـيتكم من كتاب وحكمة»، «لتؤمننّ به»، مثل: «لعبدالله والله لا آتـينه»، قال: وإن شئت جعلت خبر «ما» «من كتاب» يريد: لـما آتـيتكم كتابٌ وحكمة، وتكون «من» زائدة. وخطّأ بعض نـحويـي الكوفـيـين ذلك كله، وقال: اللام التـي تدخـل فـي أوائل الـجزاء لا تـجاب بـما ولا «لا» فلا يقال لـمن قام: لا تتبعه، ولا لـمن قام: ما أحسن، فإذا وقع فـي جوابها «ما» و«لا» علـم أن اللام لـيست بتوكيد للأولـى، لأنه يوضع موضعها «ما» و«لا»، فتكون كالأولـى، وهي جواب للأولـى. قال: وأما قوله: { لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ } بـمعنى إسقاط «من» غلط، لأن «من» التـي تدخـل وتـخرج لا تقع مواقع الأسماء، قال: ولا تقع فـي الـخبر أيضاً، إنـما تقع فـي الـجحد والاستفهام والـجزاء.

وأولـى الأقوال فـي تأويـل هذه الآية علـى قراءة من قرأ ذلك بفتـح اللام بـالصواب أن يكون قوله: { لَمَا } بـمعنى: لـمهما، وأن تكون «ما» حرف جزاء أدخـلت علـيها اللام، وصير الفعل معها علـى فَعَل، ثم أجيبت بـما تـجاب به الأيـمان، فصارت اللام الأولـى يـميناً إذ تلقـيت بجواب الـيـمين.

وقرأ ذلك آخرون: «لِـما آتَـيْتُكُمْ» بكسر اللام من «لـما»، وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة.

ثم اختلف قارئو ذلك كذلك فـي تأويـله، فقال بعضهم: معناه إذا قرىء كذلك: وإذ أخذ الله ميثاق النبـيـين للذي آتـيتكم، فما علـى هذه القراءة بـمعنى: الذي عندهم. وكان تأويـل الكلام: وإذ أخذ الله ميثاق النبـيـين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول: يعنـي: ثم إن جاءكم رسول، يعنـي ذكر مـحمد فـي التوراة، لتؤمنن به، أي لـيكونن إيـمانكم به للذي عندكم فـي التوراة من ذكره.

وقال آخرون منهم: تأويـل ذلك إذا قرىء بكسر اللام من «لِـما». وإذ أخذ الله ميثاق النبـيـين للذي آتاهم من الـحكمة، ثم جعل قوله: لتؤمنن به من الأخذ، أخذ الـميثاق، كما يقال فـي الكلام: أخذت ميثاقك لتفعلن لأن أخذ الـميثاق بـمنزلة الاستـحلاف. فكان تأويـل الكلام عند قائل هذا القول: وإذا استـحلف الله النبـيـين للذي آتاهم من كتاب وحكمة، متـى جاءهم رسول مصدق لـما معهم لـيؤمننّ به ولـينصرنه.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأ: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم } بفتـح اللام، لأن الله عز وجلّ أخذ ميثاق جميع الأنبـياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلـى خـلقه فـيـما ابتعثه به إلـيهم، كان مـمن آتاه كتابـاً، أو من لـم يؤته كتابـاً. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبـياء الله عزّ وجلّ ورسله، بأنه كان مـمن أبـيح له التكذيب بأحد من رسله. فإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوماً أن منهم من أنزل علـيه الكتاب، وأن منهم من لـم ينزل علـيه الكتاب، كان بـيِّناً أن قراءة من قرأ ذلك: «لِـمَا آتَـيْتُكُمْ» بكسر اللام، بـمعنى: من أجل الذي آتـيتكم من كتاب، لا وجه له مفهوم إلا علـى تأويـل بعيد، وانتزاع عميق.

ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن أخذ ميثاقه بـالإيـمان بـمن جاءه من رسل الله مصدّقاً لـما معه، فقال بعضهم: إنـما أخذ الله بذلك ميثاق أهل الكتاب، دون أنبـيائهم، واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله: { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } قالوا: فإنـما أمر الذين أرسلت إلـيهم الرسل من الأمـم بـالإيـمان برسل الله، ونصرتها علـى من خالفها. وأما الرسل فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد، لأنها الـمـحتاجة إلـى الـمعونة علـى من خالفها من كفرة بنـي آدم، فأما هي فإنها لا تعين الكفرة علـى كفرها ولا تنصرها. قالوا: وإذا لـم يكن غيرها وغير الأمـم الكافرة، فمن الذي ينصر النبـيّ، فـيؤخذ ميثاقه بنصرته؟ ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ } قال: هي خطأ من الكاتب، وهي فـي قراءة ابن مسعود: «وَإِذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ».

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ } يقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وكذلك كان يقرؤها الربـيع: «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب»، إنـما هي أهل الكتاب، قال: وكذلك كان يقرؤها أبـيّ بن كعب، قال الربـيع: ألا ترى أنه يقول: { ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } يقول: لتؤمننّ بـمـحمد صلى الله عليه وسلم ولتنصرنه، قال: هم أهل الكتاب.

وقال آخرون: بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك الأنبـياء دون أمـمها. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى وأحمد بن حازم قالا: ثنا أبو نعيـم، قال: ثنا سفـيان، عن حبـيب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، قال: إنـما أخذ الله ميثاق النبـيـين علـى قومهم.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبـيه فـي قوله: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ } أن يصدّق بعضهم بعضاً.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاووس، عن أبـيه فـي قوله: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ }... الآية، قال: أخذ الله ميثاق الأول من الأنبـياء لـيصدقنّ ولـيؤمننّ بـما جاء به الآخِر منهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبـي روق، عن أبـي أيوب، عن علـيّ بن أبـي طالب، قال: لـم يبعث الله عزّ وجلّ نبـياً، آدم فمن بعده، إلا أخذ علـيه العهد فـي مـحمد: لئن بعث وهو حيّ لـيؤمننّ به ولـينصرنه، ويأمره فـيأخذ العهد علـى قومه، فقال: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ }... الآية.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ }... الآية، هذا ميثاق أخذه الله علـى النبـيين أن يصدِّق بعضهم بعضاً، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته. فبلغت الأنبـياء كتاب الله ورسالاته إلـى قومهم، وأخذ علـيهم فـيـما بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم، ويصدّقوه وينصروه.

حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: ثنا أحمد بن الـمفضل، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ }... الآية. قال: لـم يبعث الله عزّ وجلّ نبـياً قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه: لـيؤمننّ بـمـحمد، ولـينصرنه إن خرج وهو حيّ، وإلا أخذ علـى قومه أن يؤمنوا به، ولـينصرنه إن خرج وهم أحياء.

حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: ثنا عبد الكبـير بن عبد الـمـجيد أبو بكر الـحنفـي، قال: ثنا عبـاد بن منصور قال: سألت الـحسن، عن قوله: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ }... الآية كلها، قال: أخذ الله ميثاق النبـيـين: لـيبلغنّ آخركم أولكم ولا تـختلفوا.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه ميثاق النبـيـين وأمـمهم، فـاجتزأ بذكر الأنبـياء عن ذكر أمـمها، لأن فـي ذكر أخذ الـميثاق علـى الـمتبوع دلالة علـى أخذه علـى التبـاع، لأن الأمـم هم تبَّـاع الأنبـياء. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، قال: ثم ذكر ما أخذ علـيهم، يعنـي علـى أهل الكتاب، وعلـى أنبـيائهم من الـميثاق بتصديقه، يعنـي بتصديق مـحمد صلى الله عليه وسلم إذا جاءهم، وإقرارهم به علـى أنفسهم، فقال: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ }... إلـى آخر الآية.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس، مثله.

وأولـى هذه الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: الـخبر عن أخذ الله الـميثاق من أنبـيائه بتصديق بعضهم بعضاً، وأخذ الأنبـياء علـى أمـمها، وتبـاعها الـميثاق بنـحو الذي أخذ علـيها ربها، من تصديق أنبـياء الله ورسله بـما جاءتها به، لأن الأنبـياء علـيهم السلام بذلك أرسلت إلـى أمـمها، ولـم يدَّع أحد مـمن صدق الـمرسلـين أن نبـياً أرسل إلـى أمة بتكذيب أحد من أنبـياء الله عزّ وجلّ، وحججه فـي عبـاده، بل كلها، وإن كذّب بعض الأمـم بعض أنبـياء الله بجحودها نبوّته، مقرّ بأن من ثبتت صحة نبوّته، فعلـيها الدينونة بتصديقه فذلك ميثاق مقرّ به جميعهم. ولا معنى لقول من زعم أن الـميثاق إنـما أخذ علـى الأمـم دون الأنبـياء، لأن الله عزّ وجلّ، قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبـيـين، فسواء قال قائل: لـم يأخذ ذلك منها ربها، أو قال: لـم يأمرها ببلاغ ما أرسلت، وقد نصّ الله عزّ وجلّ أنه أمرها بتبلـيغه، لأنهما جميعاً خبران من الله عنها، أحدهما أنه أخذ منها، والآخر منهما أنه أمرها، فإن جاز الشكّ فـي أحدهما جاز فـي الآخر. وأما ما استشهد به الربـيع بن أنس علـى أن الـمعنـيّ بذلك أهل الكتاب من قوله: { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } فإن ذلك غير شاهد علـى صحة ما قال، لأن الأنبـياء قد أمر بعضها بتصديق بعض، وتصديق بعضها بعضاً، نصرة من بعضها بعضاً.

ثم اختلفوا فـي الذين عنوا بقوله: { ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } فقال بعضهم: الذين عنوا بذلك هم الأنبـياء، أخذت مواثـيقهم أن يصدّق بعضهم بعضاً، وأن ينصروه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله.

وقال آخرون: هم أهل الكتاب أمروا بتصديق مـحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه الله وبنصرته، وأخذ ميثاقهم فـي كتبهم بذلك، وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضاً عمن قاله.

وقال آخرون مـمن قال الذين عنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم فـي هذه الآية هم الأنبـياء، قوله: { ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } معنـيّ به أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر. قال: أخبرنا ابن طاووس، عن أبـيه فـي قوله: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ } قال: أخذ الله ميثاق النبـيـين: أن يصدّق بعضهم بعضاً، ثم قال: { ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } قال: فهذه الآية لأهل الكتاب أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بـمـحمد ويصدّقوه.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنـي ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قال: قال قتادة: أخذ الله علـى النبـيـين ميثاقهم أن يصدّق بعضهم بعضاً، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالته إلـى عبـاده، فبلَّغت الأنبـياء كتاب الله ورسالاته إلـى قومهم، وأخذوا مواثـيق أهل الكتاب فـي كتابهم، فـيـما بلغتهم رسلهم، أن يؤمنوا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم، ويصدّقوه وينصروه.

وأولـى الأقوال بـالصواب عندنا فـي تأويـل هذه الآية: أن جميع ذلك خبر من الله عزّ وجلّ عن أنبـيائه أنه أخذ ميثاقهم به، وألزمهم دعاء أمـمهم إلـيه والإقرار به، لأن ابتداء الآية خبر من الله عزّ وجلّ عن أنبـيائه أنه أخذ ميثاقهم، ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم، فقال: هو كذا وهو كذا.

وإنـما قلنا إن ما أخبر الله أنه أخذ به مواثـيق أنبـيائه من ذلك، قد أخذت الأنبـياء مواثـيق أمـمها به، لأنها أرسلت لتدعو عبـاد الله إلـى الدينونة، بـما أمرت بـالدينونة به فـي أنفسها من تصديق رسل الله علـى ما قدمنا البـيان قبل. فتأويـل الآية: واذكروا يا معشر أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبـيـين لـمهما آتـيتكم أيها النبـيون من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول من عندي مصدّق لـما معكم لتؤمننّ به، يقول: لتصدقنه ولتنصرنه. وقد قال السديّ فـي ذلك بـما:

حدثنا به مـحمد بن الـحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ قوله: { لَمَا ءاتَيْتُكُم } يقول للـيهود: أخذت ميثاق النبـيـين بـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذكر فـي الكتاب عندكم.

فتأويـل ذلك علـى قول السديّ الذي ذكرناه: واذكروا يا معشر أهل الكتاب، إذ أخذ الله ميثاق النبـيـين لـما آتـيتكم أيها الـيهود من كتاب وحكمة. وهذا الذي قاله السديّ كان تأويلاً لا وجه غيره لو كان التنزيـل «بـما آتـيتكم»، ولكن التنزيـل بـاللام لـما آتـيتكم، وغير جائز فـي لغة أحد من العرب أن يقال: أخذ الله ميثاق النبـيـين لـما آتـيتكم، بـمعنى: بـما آتـيتكم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإذ أخذ الله ميثاق النبـيـين بـما ذكر، فقال لهم تعالـى ذكره: أأقررتـم بـالـميثاق الذي واثقتـمونـي علـيه من أنكم مهما أتاكم رسول من عندي، مصدّق لـما معكم، لتؤمننّ به ولتنصرنه، { وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِى } يقول: وأخذتـم علـى ما واثقتـمونـي علـيه من الإيـمان بـالرسل التـي تأتـيكم بتصديق ما معكم من عندي، والقـيام بنصرتهم إصري، يعنـي عهدي ووصيتـي، وقبلتـم فـي ذلك منـي ورضيتـموه. والأخذ: هو القبول فـي هذا الـموضع، والرضا من قولهم: أخذ الوالـي علـيه البـيعة، بـمعنى: بـايعه، وقبل ولايته، ورضي بها. وقد بـينا معنى الإصر بـاختلاف الـمختلفـين فـيه، والصحيح من القول فـي ذلك فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وحذفت الفـاء من قوله: { قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ } لأنه ابتداء كلام علـى نـحو ما قد بـينا فـي نظائره فـيـما مضى. وأما قوله: { قَالُواْ أَقْرَرْنَا } فإنه يعنـي به: قال النبـيـيون الذين أخذ الله ميثاقهم بـما ذكر فـي هذه الآية: أقررنا بـما ألزمتنا من الإيـمان برسلك الذين ترسلهم مصدّقـين لـما معنا من كتبك وبنصرتهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه، قال الله: فـاشهدوا أيها النبـيـيون بـما أخذت به ميثاقكم من الإيـمان بتصديق رسلـي التـي تأتـيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والـحكمة، ونصرتهم علـى أنفسكم، وعلـى أتبـاعكم من الأمـم إذ أنتـم أخذتـم ميثاقهم علـى ذلك، وأنا معكم من الشاهدين علـيكم وعلـيهم بذلك. كما:

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبـي روق، عن أبـي أيوب، عن علـيّ بن أبـي طالب فـي قوله: { قَالَ فَٱشْهَدُواْ } يقول: فـاشهدوا علـى أمـمكم بذلك، { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } علـيكم وعلـيهم.