التفاسير

< >
عرض

إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ
١٠
هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً
١١
وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً
١٢
-الأحزاب

جامع البيان في تفسير القرآن

يقول تعالـى ذكره: وكان الله بـما تعملون بَصِيراً، إذ جاءتكم جنودُ الأحزاب من فوقِكم، ومن أسفلَ منكم. وقـيـل: إن الذين أتَوْهم من أسفل منهم، أبو سفـيان فـي قريش ومن معه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد { إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ } قال عيـينة بن بدر فـي أهل نـجد، ومن أسفل منكم، قال: أبو سفـيان. قال: وواجَهَتْهم قُرَيظة.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة: ذكرت يوم الـخندق وقرأت: { إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ، وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الـحَناجِرَ } قالت: هو يوم الـخندق.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلَـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن يزيد بن رُومان مولـى آل الزبـير، عن عُروة بن الزبـير، وعمن لاأتهم، عن عُبـيد الله بن كعب بن مالك، وعن الزُّهريّ، وعن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الله بن أبـي بكر بن مـحمد بن عمرو بن حزم، وعن مـحمد بن كعب القُرَظيّ، وعن غيرهم من علـمائنا: أنه كان من حديث الـخندق، أن نَفَراً من الـيهود، منهم سلام بن أبـي الـحُقَـيق النَّضَريّ، وحُيـيّ بن أخطب النَّضَري، وكِنانة بن الرَّبـيع بن أبـي الـحُقَـيق النضريّ، وهَوْذَة بن قـيس الوائلـيّ، وأبو عمار الوائلـيّ، فـي نفر من بنـي النضير، ونفر من بنـي وائل، وهم الذين حَزَّبوا الأحزاب علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتـى قدِموا مكة علـى قريش، فدعَوْهم إلـى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكون معكم علـيه، حتـى نستأصلَه. فقال لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأوّل، والعلـم بـما أصبحنا نـختلف فـيه نـحن ومـحمد، أَفَدِيننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتـم أولـى بـالـحقّ منه. قال: فهم الذين أنزل الله فـيهم: { { ألَـمْ تَرَ إلـى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبـاً مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بـالـجِبْتِ والطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِـيلاً... } إلـى قوله: { { وكَفَـى بِجَهَنَّـمَ سَعِيراً } فلـما قالوا ذلك لقريش، سرّهم ما قالوا، ونشطوا لـما دعوهم له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـاجتـمعوا لذلك، واتعدوا له. ثم خرج أولئك النفر من الـيهود، حتـى جاءوا غطفـان من قـيس عيلان، فدعوهم إلـى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم علـيه، وأن قريشاً قد تابعوهم علـى ذلك، فـاجتـمعوا فـيه، فأجابوهم فخرجت قريش وقائدها أبو سفـيان بن حرب، وخرجت غطفـان وقائدها عيـينة بن حصن بن حُذَيفة بن بدر فـي بنـي فزارة، والـحارث بن عوف بن أبـي حارثة الـمري فـي بنـي مرّة، ومسْعر بن رخيـلة بن نُوَيرة بن طريف بن سحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفـان، فـيـمن تابعه من قومه من أشجع فلـما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبـما اجتـمعوا له من الأمر ضرب الـخندق علـى الـمدينة فلـما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـخندق، أقبلت قريش حتـى نزلت بـمـجتـمع الأسيال من رومة بـين الـجرف والغابة فـي عشرة آلاف من أحابـيشهم، ومن تابعهم من بنـي كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطَفـان ومن تابعهم من أهل نـجد، حتـى نزلوا بذنب نَقَمَى إلـى جانب أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمسلـمون حتـى جعلوا ظهورهم إلـى سَلْع فـي ثلاثة آلاف من الـمسلـمين، فضرب هنالك عسكره، والـخندق بـينه وبـين القوم، وأمر بـالذّراري والنساء، فرفعوا فـي الآطام، وخرج عدوّ الله حيـي بن أخطب النضري، حتـى أتـى كعب بن أسد القرظيّ، صاحب عقد بنـي قريظة وعهدهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى قومه، وعاهده علـى ذلك وعاقده، فلـما سمع كعب بحيـيّ بن أخطب، أغلق دونه حصنه، فـاستأذن علـيه، فأبى أن يفتـح له، فناداه حيـيّ: يا كعب افتـح لـي، قال: ويحك يا حيـيّ، إنك امرؤ مشؤوم، إنـي قد عاهدت مـحمداً، فلست بناقض ما بـينـي وبـينه، ولـم أر منه إلاَّ وفـاء وصدقاً قال: ويحك افتـح لـي أكلـمك، قال: ما أنا بفـاعل. قال: والله إن أغلقت دونـي إلاَّ تـخوّفت علـى جشيشتك أن آكل معك منها، فأحفظ الرجل، ففتـح له، فقال: يا كعب جئتك بعزّ الدهر، وببحر طمّ، جئتك بقريش علـى قاداتها وساداتها، حتـى أنزلتهم بـمـجتـمع الأسيال من رُومَة، وبغطَفـان علـى قاداتها وساداتها حتـى أنزلتهم بذنب نَقَمَى إلـى جانب أُحد، قد عاهدونـي وعاقدونـي أن لا يبرحوا حتـى يستأصلوا مـحمداً ومن معه، فقال له كعب بن أسد: جئتنـي والله بذلّ الدهر، وبجهام قد هراق ماءه، يرعد ويبرق، لـيس فـيه شيء، فدعنـي ومـحمداً وما أنا علـيه، فلـم أر من مـحمد إلاَّ صدقاً ووفـاء فلـم يزل حيـيّ بكعب يفتله فـي الذروة والغارب حتـى سمـح له علـى أن أعطاهم عهداً من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفـان ولـم يصيبوا مـحمداً أن أدخـل معك فـي حصنك حتـى يصيبنـي ما أصابك. فنقض كعب بن أسد عهده، وبرىء مـما كان علـيه، فـيـما بـينه وبـين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلـما انتهى إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم الـخبر، وإلـى الـمسلـمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القـيس، أحد بنـي الأشهل، وهو يومئذٍ سيد الأوس، وسعد بن عبـادة بن ديـلـم أخي بنـي ساعدة بن كعب بن الـخزرج، وهو يومئذٍ سيد الـخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بلـحرث بن الـخزرج، وخوات بن جبـير أخو بنـي عمرو بن عوف، فقال: انطلقوا حتـى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟، فإن كان حقا فـالـحنوا لـي لـحناً أعرفه، ولا تفتوا فـي أعضاد الناس، وإن كانوا علـى الوفـاء فـيـما بـيننا وبـينهم، فـاجهروا به للناس. فخرجوا حتـى أتوهم، فوجدوهم علـى أخبث ما بلغهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا عهد بـيننا وبـين مـحمد ولا عقد، فشاتـمهم سعد بن عبـادة وشاتـموه، وكان رجلاً فـيه حدّة، فقال له سعد بن معاذ: دع عنك مشاتـمتهم، فما بـيننا وبـينهم أربى من الـمشاتـمة. ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلـموا علـيه، ثم قالوا: عضل والقارة: أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الرجيع خبـيب بن عديّ وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، أبشروا يا معشر الـمسلـمين" ، وعظم عند ذلك البلاء، واشتدّ الـخوف، وأتاهم عدوّهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، حتـى ظنّ الـمسلـمون كلّ ظنّ، ونـجم النفـاق من بعض الـمنافقـين، حتـى قال معتب بن قشير أخو بنـي عمرو بن عوف: كان مـحمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقـيصر، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلـى الغائط، وحتـى قال أوس بن قـيظي أحد بنـي حارثة بن الـحارث: يا رسول الله إن بـيوتنا لعورة من العدوّ، وذلك عن ملإ من رجال قومه، فأذن لنا فلنرجع إلـى دارنا، وإنها خارجة من الـمدينة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين لـيـلة قريبـا من شهر، ولـم يكن بـين القوم حرب إلاَّ الرمي بـالنبل والـحصار».

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي يزيد بن رومان، قوله { إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ } فـالذين جاءوهم من فوقهم: قريظة، والذين جاءوهم من أسفل منهم: قريش وغطفـان.

وقوله: { وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ } يقول: وحين عدلت الأبصار عن مقرّها، وشخصت طامـحة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ }: شخصت.

وقوله: { وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الـحَناجِرَ } يقول: نبت القلوب عن أماكنها من الرعب والـخوف، فبلغت إلـى الـحناجر. كما:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرِمة: { وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الـحَناجِرَ } قال: من الفزع.

وقوله: { وَتَظُنُّونَ بـاللّهِ الظُّنُونا } يقول: وتظنون بـالله الظنونَ الكاذبة، وذلك كظنّ من ظنّ منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغلب، وأن ما وعده الله من النصر أن لا يكون، ونـحو ذلك من ظنونهم الكاذبة التـي ظنها من ظنّ مـمن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي عسكره.

حدثنا بشر، قال: ثنا هوذة بن خـلـيفة، قال: ثنا عوف، عن الـحسن { وَتَظُنُّونَ بـالله الظُّنُونا } قال: ظنوناً مختلفة: ظنّ الـمنافقون أن مـحمداً وأصحابه يُستأصلون، وأيقن الـمؤمنون أن ما وعدهم الله حقّ، أنه سيظهره علـى الدين كله ولو كره الـمشركون.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { وَتَظُنُّونَ بـالله الظُّنُونا } فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة، وبعض الكوفـيـين: { الظُّنَونا } بإثبـات الألف، وكذلك { وأطَعْنا الرَّسُولا فأضَلُّونا السَّبِـيلا } فـي الوصل والوقـف وكان اعتلال الـمعتلّ فـي ذلك لهم، أن ذلك فـي كل مصاحف الـمسلـمين بإثبـات الألف فـي هذه الأحرف كلها. وكان بعض قرّاء الكوفة يثبت الألف فـيهنّ فـي الوقـف، ويحذفها فـي الوصل اعتلالاً بأن العرب تفعل ذلك فـي قوافـي الشعر ومصاريعها، فتلـحق الألف فـي موضع الفتـح للوقوف، ولا تفعل ذلك فـي حشو الأبـيات، فإن هذه الأحرف، حسُن فـيها إثبـات الألفـات، لأنهنّ رؤوس الآي تـمثـيلاً لها بـالقوافـي. وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة والكوفة بحذف الألف من جميعه فـي الوقـف والوصل، اعتلالاً بأن ذلك غير موجود فـي كلام العرب إلاَّ فـي قوافـي الشعر دون غيرها من كلامهم، وأنها إنـما تفعل ذلك فـي القوافـي طلبـاً لإتـمام وزن الشعر، إذ لو لـم تفعل ذلك فـيها لـم يصحّ الشعر، ولـيس ذلك كذلك فـي القرآن، لأنه لا شيء يضطرهم إلـى ذلك فـي القرآن، وقالوا: هنّ مع ذلك فـي مصحف عبد الله بغير ألف.

وأولـى القرَاءات فـي ذلك عندي بـالصواب، قراءة من قرأه بحذف الألف فـي الوصل والوقـف، لأن ذلك هو الكلام الـمعروف من كلام العرب، مع شهرة القراءة بذلك فـي قرّاء الـمصرين: الكوفة، والبصرة ثم القراءة بإثبـات الألف فـيهنّ فـي حالة الوقـف والوصل، لأن علة من أثبت ذلك فـي حال الوقـف أنه كذلك فـي خطوط مصاحف الـمسلـمين. وإذا كانت العلة فـي إثبـات الألف فـي بعض الأحوال كونه مثبتاً فـي مصاحف الـمسلـمين، فـالواجب أن تكون القراءة فـي كل الأحوال ثابتة، لأنه مثبت فـي مصاحفهم. وغير جائز أن تكون العلة التـي توجب قراءة ذلك علـى وجه من الوجوه فـي بعض الأحوال موجودة فـي حال أخرى، والقراءة مختلفة، ولـيس ذلك لقوافـي الشعر بنظير، لأن قوافـي الشعر إنـما تلـحق فـيها الألفـات فـي مواضع الفتـح، والـياء فـي مواضع الكسر، والواو فـي مواضع الضمّ طلبـاً لتتـمة الوزن، وأن ذلك لو لـم يفعل كذلك بطل أن يكون شعراً لاستـحالته عن وزنه، ولا شيء يضطرّ تالـي القرآن إلـى فعل ذلك فـي القرآن.

وقوله: { هُنالكَ ابْتُلِـيَ الـمُؤْمِنُونَ } يقول: عند ذلك اختبر إيـمان الـمؤمنـين، ومـحِّص القوم وعرف الـمؤمن من الـمنافق. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله { هُنالكَ ابْتُلِـيَ الـمُؤْمِنُونَ } قال: مـحصوا.

وقوله: { وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً } يقول: وحرّكوا بـالفتنة تـحريكاً شديداً، وابتلوا وفتنوا.

وقوله: { وَإذْ يقُولُ الـمُنافِقونَ وَالَّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ }: شَكٌّ فـي الإيـمان، وضعف فـي اعتقادهم إياه: ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غُروراً، وذلك فـيـما ذُكِر قولُ معتِّب بن قُشَير. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي يزيد بن رُومان { وَإذْ يَقُولُ الـمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُوراً } يقول: مُعَتِّب بن قُشَير، إذ قال ما قال يوم الـخندق.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله { وَإذْ يَقُولُ الـمنافقون والَّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال: تكلُّـمهم بـالنفـاق يومئذٍ، وتَكَلّـمَ الـمؤمنون بـالـحقّ والإيـمان، قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله { وَإذْ يَقولُ الـمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُوراً } قال: قال ذلك أُناس من الـمنافقـين: قد كان مـحمد يعدُنا فتـح فـارس والروم، وقد حُصِرنا هاهنا، حتـى ما يستطيع أحدُنا أن يبرُز لـحاجته ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غروراً.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال: قال رجل يوم الأحزاب لرجل من صحابة النبـيّ صلى الله عليه وسلم: يا فلان أرأيت إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا هَلَكَ قَـيْصَرُ فَلا قَـيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِـيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُما فِـي سَبِـيـلِ اللّه" ِ». فأينَ هذا من هذا، وأحدُنا لا يستطيع أن يخرج يبول من الـخوف؟ { ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُوراً }. فقال له: كذبت، لأُخْبِرَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرك، قال: فأَتـى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فدعاه فقال: "ما قلت؟" فقال: كذبَ علـيّ يا رسول الله، ما قلت شيئاً، ما خرج هذا من فمي قطّ قال الله: { { يَحْلِفُونَ بـالله ما قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِـمَةَ الكُفْرِ... } حتـى بلغ { { وَما لَهُمْ مِنْ وَلِـيّ وَلا نَصِيرٍ } قال: "فهذا قول الله: { إنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذّبْ طائِفَةً }" .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مـحمد بن خالد بن عَثْمة، قال: ثنا كثـير بن عبد الله بن عمرو بن عوف الـمُزَنـيّ، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الـخندق عام ذُكِرت الأحزاب، من أحمر الشيخين، طرف بنـي حارثة، حتـى بلغ الـمَذَاد، ثم جعل أربعين ذراعاً بـين كلّ عشرة، فـاختلف الـمهاجرون والأنصار فـي سَلْـمان الفـارسيّ، وكان رجلاً قويًّا، فقال الأنصار: سَلْـمان منا، وقال الـمهاجرون: سلـمان منا، فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: "سَلْـمانُ مِنَّا أهْلَ البَـيْتِ" . قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسَلْـمانُ وحُذَيفةُ بن الـيـمان والنُّعمانُ بن مُقَرِّن الـمُزَنـيّ، وستةٌ من الأنصار، فـي أربعين ذراعاً، فحفَرنا تـحت دوبـار حتـى بلغنا الصَّرَى، أخرج الله من بطن الـخندق صخرة بـيضاء مروة، فكسرت حديدنا، وشَقَّت علـينا، فقلنا: يا سلـمان، ارْقَ إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن الـمعدل قريب، وإما أن يأمرنا فـيها بأمره، فإنا لا نـحبّ أن نـجاوز خَطَّه. فرقـي سَلـمان حتـى أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب علـيه قُبةً تركية، فقال: يا رسول الله بأبـينا أنت وأمنا، خرجت صخرة بـيضاء من بطن الـخندق، مَرْوَة، فكسرت حديدنا، وشقَّت علـينا، حتـى ما يجيء منها قلـيـل ولا كثـير، فمرنا فـيها بأمرك، فإنا لا نـحبّ أن نـجاوز خَطَّك. فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلـمان فـي الـخندق، ورَقِـينا نـحن التسعة علـى شَفَة الـخندق، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمِعْول من سَلـمان، فضرب الصخرة ضربة صَدَعها، وبَرَقت منها بَرْقة أضاءت ما بـين لابتـيها، يعنـي: لابتـي الـمدينة، حتـى لكأن مصبـاحاً فـي جوف بـيت مظلـم، فكّبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبـير فتـح، وكبر الـمسلـمون. ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانـية، فصَدَعها وبَرَقت منها بَرْقة أضاءت ما بـين لابتـيها، حتـى لكأن مصبـاحاً فـي جوف بـيت مظلـم، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبـير فتـح، وكبر الـمسلـمون، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة، فكسرها، وبَرَقَت منها بَرْقة أضاءت ما بـين لابتـيها، حتـى لكأن مصبـاحاً فـي جوف بـيت مظلـم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبـير فتـح، ثم أخذ بـيد سَلْـمانَ فَرِقـي، فقال سلـمان: بأبـي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئاً ما رأيته قطّ، فـالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى القوم، فقال: "هَلْ رأيْتُـمْ ما يقُولُ سَلْـمانُ؟" قَالُوا: نعم يا رسول الله، بأبـينا أنت وأمنا وقد رأيناك تضرب، فـيخرج بَرْق كالـموجِ، فرأيناك تكبّر فنكبر، ولا نرى شيئاً غير ذلك، قال: "صَدَقْتُـمْ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِـي الأُولـى، فبَرَقَ الَّذِي رأيتُـمْ، أضَاءَ لـي مِنْهُ قُصُورُ الْـحِيرَةِ وَمَدَائِنُ كسْرَى، كأنَّها أنْـيابُ الكِلابِ، فأخْبَرَنِـي جَبْرَائِيـلُ عَلَـيْهِ السَّلامُ أنَّ أُمَّتِـي ظاهِرَةٌ عَلَـيْها، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِـي الثَّانِـيَةَ، فبَرَقَ الَّذِي رأيْتُـمْ، أضَاءَ لـي مِنْهُ قُصُورُ الـحُمْرِ مِنْ أرْضِ الرُّومِ، كأنَّها أنْـيابُ الكِلابِ، وأخْبَرَنِـي جَبْرائِيـلُ عَلَـيْهِ السَّلامُ أنَّ أُمَّتِـي ظاهِرَةٌ عَلَـيْها، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِـي الثَّالِثَةَ، وَبَرَقَ مِنْها الَّذِي رأيْتُـمْ، أضَاءَتْ لـي مِنْها قُصُورُ صَنْعاءَ، كأنَّها أنْـيابُ الكِلابِ، وأخْبَرَنِـي جَبْرَائِيـلُ عَلَـيْهِ السَّلامُ أنَّ أُمَّتِـي ظاهِرَةٌ عَلَـيْها، فأَبْشِرُوا، يُبَلِّغْهُمُ النصْرُ، وأبْشِرُوا، يُبَلِّغُهُمُ النَّصْرُ، وأبْشِرُوا يُبَلِّغُهُمُ النَّصْرُ" . فـاستبشر الـمسلـمون، وقالوا: الـحمد لله موعود صدق، بأن وعَدَنا النصر بعد الـحَصْر، فطَبَّقت الأحزاب، فقال الـمسلـمون { { هَذا ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسولُهُ... } الآية، وقال الـمنافقون: ألا تعجبون.؟ يُحَدّثكم ويـمنـيكم ويَعِدكم البـاطل، يُخْبركم أنه يبصر من يثربَ قصور الـحِيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتُـح لكم، وأنتـم تـحفرون الـخندق من الفَرَق، ولا تستطيعون أن تَبْرزُوا؟ وأُنزل القرآن: { وَإذْ يَقُولُ الـمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُوراً }.