التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً
٥٣
-الأحزاب

جامع البيان في تفسير القرآن

يقول تعالـى ذكره لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين أمنوا بـالله ورسوله، لا تدخـلوا بـيوت نبـيّ الله إلا أن تُدْعَوا إلـى طعام تطعمونه { غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ } يعنـي: غير منتظرين إدراكه وبلوغه وهو مصدر من قولهم: قد أنى هذا الشيء يَأنِـي إنىً وأنْـياً وإنَاءً قال الـحُطَيئة:

وآنَـيْتُ العَشاءَ إلـى سُهَيْـلٍ أوِ الشِّعْرَى فَطالَ بـيَ الأَناءُ

وفـيه لغة أخرى، يقال: قد إن لك: أي تبـين لك إيناً، ونال لك، وأنال لك ومنه قول رُؤبة بن العَجاج:

هاجَتْ وَمِثْلِـي نَوْلُه أنْ يَرْبَعا حَمامَةٌ ناخَتْ حَماماً سُجَّعا

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قول الله: إلـى طَعامٍ { غيرَ ناظِرِينَ إناهُ } قال: مُتَـحَيِّنـين نُضْجَه.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، { غيرَ ناظِرِينَ إناهُ } يقول: غير ناظرين الطعامَ أن يُصْنَع.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { غيرَ ناظِرِينَ إناهُ } قال: غير متـحينـين طعامه.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.

ونصب { غيرَ } فـي قوله: { غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ } علـى الـحال من الكاف والـميـم فـي قوله: { إلاَّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } لأن الكاف والـميـم معرفة وغير نكرة، وهي من صفة الكاف والـميـم. وكان بعض نـحويِّـي البصرة يقول: لا يجوز فـي «غير» الـجرّ علـى الطعام، إلا أن تقول: أنتـم، ويقول: ألا ترى أنك لو قلت: أبدى لعبد الله علـيّ امرأة مبغضاً لها، لـم يكن فـيه إلا النصب، إلا أن تقول: مبغض لها هو، لأنك إذا أجريت صفته علـيها، ولـم تظهر الضمير الذي يدلّ علـى أن الصفة له لـم يكن كلاماً، لو قلت: هذا رجل مع امرأةٍ مُلازِمِها، كان لـحناً، حتـى ترفع، فتقول ملازمُها، أو تقول مُلازمِهَا هُو، فتـجرّ.

وكان بعض نـحويـي الكوفة يقول: لو جعلت «غير» فـي قوله: { غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ } خفضاً كان صوابـاً، لأن قبلها الطعام وهو نكرة، فـيجعل فعلهم تابعا للطعام، لرجوع ذكر الطعام فـي إناه، كما تقول العرب: رأيت زيداً مع امرأةٍ مـحسناً إلـيها ومـحسنٍ إلـيها، فمن قال مـحسناً جعله من صفة زيد، ومن خفضه فكأنه قال: رأيته مع التـي يحسن إلـيها فإذا صارت الصلة للنكرة أتبعتها وإن كانت فعلاً لغير النكرة، كما قال الأعشى:

فَقُلْتُ لَهُ هَذِهِ هاتِها إلَـيْنا بِأَدْماءَ مُقْتادِها

فجعل الـمقتاد تابعاً لإعراب بأدماء، لأنه بـمنزلة قولك: بأدماء تقتادها، فخفضه، لأنه صلة لها، قال: ويُنْشَد: «بأدماءِ مقتادِها» بخفض الأدماء لإضافتها إلـى الـمقتاد، قال: ومعناه: هاتها علـى يدي من اقتادها. وأنشد أيضا:

وَإنَّ امْرَأً أهْدَى إلَـيْكِ ودُونَهُ مِن الأرْضِ مَوْماةٌ وَبَـيْداءُ فَـيْهَقُ
لَـمَـحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَـجِيبـي لِصَوْتِهِ وأنْ تعْلَـمي أنَّ الـمُعانَ مُوَفَّقُ

وحُكِي عن بعض العرب سَمَاعاً يُنْشِد:

أرأيْتِ إذْ أعْطَيْتُكِ الوُدَّ كُلَّه ولـمْ يَكُ عِنْدي إنْ أَبَـيْتِ إبـاءُ
أمُسْلِـمَتِـي للْـمَوْتِ أنْتِ فَمَيِّتٌ وَهَلْ للنُّفُوسِ الـمُسْلِـماتِ بَقاءُ

ولـم يقل: فميت أنا، وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: يدك بـاسطها، يريدون أنت، وهو كثـير فـي الكلام، قال: فعلـى هذا يجوز خفض «غير».

والصواب من القول فـي ذلك عندنا، القول بأجازة جرّ «غير» فـي «غير ناظرين» فـي الكلام، لا فـي القراءة، لـما ذكرنا من الأبـيات التـي حكيناها فأما فـي القراءة فغير جائز فـي «غير» غير النصب، لإجماع الـحجة من القرّاء علـى نصبها.

وقوله: { وَلَكِنْ إذاً دُعِيتُـمْ فـادْخُـلُوا } يقول: ولكن إذا دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فـادخـلوا البـيت الذي أذن لكم بدخوله { فإذَا طَعِمْتُـمْ فـانْتَشِرُوا } يقول: فإذا أكلتـم الطعام الذي دعيتـم لأكله فـانتشروا، يعنـي فتفرّقوا واخرجوا من منزله. { وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِـحَدِيثٍ } فقوله: { وَلا مُسْتأْنِسينَ لِـحَديثٍ } فـي موضع خفض عطفـاً به علـى ناظرين، كما يقال فـي الكلام: أنت غير ساكت ولا ناطق. وقد يحتـمل أن يقال: «مستأنسين» فـي موضع نصب عطفـاً علـى معنى ناظرين، لأن معناه: إلا أن يؤذن لكم إلـى طعام لا ناظرين إناه، فـيكون قوله: { وَلا مُسْتأْنِسِينَ } نصبـاً حينئذ، والعرب تفعل ذلك إذا حالت بـين الأوّل والثانـي، فتردّ أحيانا علـى لفظ الأوّل، وأحياناً علـى معناه، وقد ذكر الفراء أن أبـا القمقام أنشده:

أجِدَّك لَسْتَ الدَّهْرَ رَائيَ رَامَةٍ وَلا عاقِلٍ إلاَّ وأنْتَ جَنِـيبُ
وَلا مُصْعِدٍ فِـي الـمُصْعِدِينَ لَـمِنْعِجٍ وَلا هابِطا ما عِشْتُ هَضْبَ شَطِيبِ

فردّ «مصعد» علـى أن «رائي» فـيه بـاء خافضة، إذ حال بـينه وبـين الـمصعد مـما حال بـينهما من الكلام.

ومعنى قوله: { وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِـحَدِيثٍ }: ولا متـحدّثـين بعد فراغكم من أكل الطعام إيناساً من بعضكم لبعض به، كما:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد { وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِـحَدِيثٍ } بعد أن تأكلوا.

واختلف أهل العلـم فـي السبب الذي نزلت هذه الآية فـيه، فقال بعضهم: نزلت بسبب قوم طعموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي ولـيـمة زينب بنت جحش، ثم جلسوا يتـحدّثون فـي منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى أهله حاجة، فمنعه الـحياء من أمرهم بـالـخروج من منزله. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عبد العزيز بن صُهَيب، عن أنس بن مالك، قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، فبعثت داعياً إلـى العطام، فدعوت، فـيجيء القوم يأكلون ويخرجون ثم يجيء القوم يأكلون ويخرجون، فقلت: يا نبـيّ الله قد دعوت حتـى ما أجد أحداً أدعوه، قال: "ارفعوا طعامكم" ، وإن زينب لـجالسة فـي ناحية البـيت، وكانت قد أعطيت جمالاً، وبقـي ثلاثة نفر يتـحدّثون فـي البـيت، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقاً نـحو حجرة عائشة، فقال: "السَّلامُ عَلَـيْكُمْ أهْلَ البَـيْتِ" فقالوا: وعلـيك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ قال: فأتـى حجر نسائه، فقالوا مثل ما قالت عائشة، فرجع النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا الثلاثة يتـحدّثون فـي البـيت، وكان النبـيّ صلى الله عليه وسلم شديد الـحياء، فخرج النبـيّ صلى الله عليه وسلم منطلقاً نـحو حجرة عائشة، فلا أدري أَخبرَتْه، أو أُخبر أن الرهط قد خرجوا، فرجع حتـى وضع رجله فـي أُسكفَّة داخـل البـيت، والأخرى خارجه، إذ أرخى الستر بـينـي وبـينه، وأُنزلت آية الـحجاب.

حدثنـي أبو معاوية بشر بن دحية، قال: ثنا سفـيان، عن الزهريّ، عن أنس بن مالك، قال: سألنـي أبـيّ بن كعب عن الـحجاب، فقلت: أنا أعلـم الناس به، نزلت فـي شأن زينب أولـم النبـيّ صلى الله عليه وسلم علـيها بتـمر وسويق، فنزلت: { يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتَ النَّبِـيّ إلاَّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } إلـى قوله: { ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ }.

حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنـي عمي، قال: أخبرنـي يونس، عن الزهريّ، قال: أخبرنـي أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنـين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الـمدينة، فكنت أعلـم الناس بشأن الـحجاب حين أنزل فـي مبتنـي رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عروساً، فدعا القوم فأصابوا من الطعام حتـى خرجوا، وبقـي منهم رهط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطالوا الـمكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج، وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشيت معه، حتـى جاء عتبة حجرة عائشة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، حتـى دخـل علـى زينب، فإذا هم جلوس لـم يقوموا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فضرب بـينـي وبـينه ستراً، وأنزل الـحجاب.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبـي عديّ، عن حميد، عن أنس، قال: دعوت الـمسلـمين إلـى ولـيـمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صبـيحة بنى بزينب بنت جحش، فأوسعهم خبزاً ولـحماً، ثم رجع كما كان يصنع، فأتـى حجر نسائه فسلـم علـيهنّ، فدعون له، ورجع إلـى بـيته وأنا معه فلـما انتهينا إلـى البـاب إذا رجلان قد جرى بهما الـحديث فـي ناحية البـيت، فلـما أبصرهما ولـى راجعاً فلـما رأيا النبـيّ صلى الله عليه وسلم ولَّـى عن بـيته، ولَّـيا مُسْرِعين، فلا أدري أنا أخبرته، أو أُخبر فرجع إلـى بـيته، فأرخى الستر بـينـي وبـينه، ونزلت آية الـحجاب.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبـي عديّ، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الـخطاب: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو حجبت عن أمهات الـمؤمنـين، فإنه يدخـل علـيك البرّ والفـاجر، فنزلت آية الـحجاب.

حدثنـي القاسم بن بشر بن معروف، قال: ثنا سلـيـمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبـي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: أنا أعلـم الناس بهذه الآية، آية الـحجاب لـما أُهديت زينب إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع طعاماً، ودعا القوم، فجاؤوا فدخـلوا وزينب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي البـيت، وجعلوا يتـحدّثون، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يدخـل وهم قعود، قال: فنزلت هذه الآية: { يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتَ النَّبِـيّ }.... إلـى: { فـاسأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ } قال: فقام القوم وضرب الـحجاب.

حدثنـي عمر بن إسماعيـل بن مـجالد، قال: ثنا أبـي، عن بـيان، عن أنس بن مالك، قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بـامرأة من نسائه، فأرسلنـي، فدعوت قوماً إلـى الطعام فلـما أكلوا وخرجوا، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقاً قِبَلَ بـيت عائشة، فرأى رجلـين جالسين، فـانصرف راجعاً، فأنزل الله: { يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتَ النَّبِـيّ إلاَّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ }.

حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا الـمسعودي، قال: ثنا ابن نهشل، عن أبـي وائل، عن عبد الله، قال: أمر عمر نساء النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـالـحجاب، فقالت زينب: يا بن الـخطاب، إنك لتغار علـينا، والوحي ينزل فـي بـيوتنا، فأنزل الله: { وَإذَا سألْتُـمُوهُنَّ مَتاعاً فـاسأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ }.

حدثنـي مـحمد بن مرزوق، قال: ثنا أشهل بن حاتـم، قال: ثنا ابن عون، عن عمرو بن سعد، عن أنس، قال: وكنت مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم، وكان يـمرّ علـى نسائه، قال: فأتـى بـامرأة عروس، ثم جاء وعندها قوم، فـانطلق فقضى حاجته، واحتبس وعاد وقد خرجوا قال: فدخـل فأرخى بـينـي وبـينه سترا، قال: فحدثت أبـا طلـحة، فقال: إن كان كما تقول: لـينزلنّ فـي هذا شيء، قال: ونزلت آية الـحجاب.

وقال آخرون: كان ذلك فـي بـيت أمّ سلـمة. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { وَلَكِنْ إذَا دُعِيُتـمْ فـادْخُـلُوا فإذَا طَعِمْتُـمْ فـانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسينَ لِـحَدِيثٍ } قال: كان هذا فـي بـيت أمّ سلـمة، قال: أكلوا، ثم أطالوا الـحديث، فجعل النبـيّ صلى الله عليه وسلم يدخـل ويخرج ويستـحي منهم، والله لا يستـحي من الـحق.

قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { وَإذَا سألْتُـمُوهُنَّ مَتاعاً فـاسأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ } قال: بلغنا أنهنّ أُمرن بـالـحجاب عند ذلك.

وقوله: { إنَّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِـيَّ }. يقول: إن دخولكم بـيوت النبـيّ من غير أن يؤذن لكم، وجلوسكم فـيها مستأنسين للـحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتـم له، كان يؤذي النبـيّ، فـيستـحي منكم أن يخرجكم منها إذا قعدتـم فـيها للـحديث بعد الفراغ من الطعام، أو يـمنعكم من الدخول إذا دخـلتـم بغير إذن مع كراهيته لذلك منكم { وَاللَّهُ لا يَسْتـحْيِ مِنَ الـحَقّ } أن يتبـين لكم، وإن استـحيا نبـيكم فلـم يبـين لكم كراهية ذلك حياء منكم { وَإذَا سألْتَـمُوهُنَّ مَتاعاً فـاسأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ } يقول: وإذا سألتـم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء الـمؤمنـين اللواتـي لسن لكم بأزواج متاعاً { فـاسأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجاب } يقول: من وراء ستر بـينكم وبـينهنّ، ولا تدخـلوا علـيهنّ بـيوتهنّ { ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } يقول تعالـى ذكره: سؤالكم إياهنّ الـمتاع إذا سألتـموهنّ ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ من عوارض العين فـيها التـي تعرض فـي صدور الرجال من أمر النساء، وفـي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون للشيطان علـيكم وعلـيهنّ سبـيـل.

وقد قـيـل: إن سبب أمر الله النساء بـالـحجاب، إنـما كان من أجل أن رجلاً كان يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة معهما، فأصابت يدها يد الرجل، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا هشيـم، عن لـيث، عن مـجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت آية الـحجاب.

وقـيـل: نزلت من أجل مسألة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب ويعقوب، قالا: ثنا هشيـم، قال: ثنا حميد الطويـل، عن أنس، قال: قال عمر بن الـخطاب: قلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخـل علـيهنّ البرّ والفـاجر، فلو أمرتهن أن يحتـجبن؟ قال: فنزلت آية الـحجاب.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا ابن علـية، قال: ثنا حميد، عن أنس، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه.

حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنـي عمرو بن عبد الله بن وهب، قال: ثنـي يونس، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة قالت: إن أزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم كنّ يخرجن بـاللـيـل إذا تبرّزن إلـى «الـمناصع» وهو صعيد أفـيح، وكان عمر يقول: يا رسول الله، احجب نساءك، فلـم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة، زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة طويـلة، فناداها عمر بصوته الأعلـى: قد عرفناك يا سودة، حرصاً أن ينزل الـحجاب، قال: فأنزل الله الـحجاب.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نـمير، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة، قالت: خرجت سودة لـحاجتها بعد ما ضرب علـينا الـحجاب، وكانت امرأة تفرع النساء طولاً، فأبصرها عمر، فناداها: يا سودة، إنك والله ما تـخفـين علـينا، فـانظري كيف تـخرجين، أو كيف تصنعين؟ فـانكفأت فرجعت إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لـيتعشى، فأخبرته بـما كان، وما قال لها، وإن فـي يده لعَرْقاً، فأوحي إلـيه، ثم رفع عنه، وإن العَرْق لفـي يده، فقال: "لقد أُذن لكنّ أن تـخرجن لـحاجتكنّ" .

حدثنـي أحمد بن مـحمدالطوسي، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا همام، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن أبـي وائل، عن ابن مسعود، قال: أمر عمر نساء النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـالـحجاب فقالت زينب: يا ابن الـخطاب، إنك لتغار علـينا والوحي ينزل فـي بـيوتنا؟ فأنزل الله: وَإذَا سألْتُـمُوهُنَّ مَتاعا فـاسأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ.

حدثنـي أبو أيوب النهرانـي سلـيـمان بن عبد الـحميد، قال: ثنا يزيد بن عبد ربه، قال: ثنـي ابن حرب، عن الزبـيدي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن أزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم، كنّ يخرجن بـاللـيـل إذا تبرّزن إلـى «الـمناصع» وهو صعيد أفـيح وكان عمر بن الـخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلـم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـيـلة من اللـيالـي عشاء، وكانت امرأة طويـلة، فناداها عمر بصوته الأعلـى: قد عرفناك يا سودة، حرصاً علـى أن ينزل الـحجاب، قالت عائشة: فأنزل الله الـحجاب، قال الله: { يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا }... الآية.

وقوله: { وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } يقول تعالـى ذكره: وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله، وما يصلـح ذلك لكم { وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَداً } يقول: وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً لأنهنّ أمهاتكم، ولا يحلّ للرجل أن يتزوّج أمه.

وذُكر أن ذلك نزل فـي رجل كان يدخـل قبل الـحجاب، قال: لئن مات مـحمد لأتزوجنّ امرأة من نسائه سماها، فأنزل الله تبـارك وتعالـى فـي ذلك: { وَما كانَ لَكُمْ أن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَداً }. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا إنَّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيـماً } قال: ربـما بلغ النبـيّ صلى الله عليه وسلم أن الرجل يقول: لو أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم توفـي تزوّجت فلانة من بعده، قال: فكان ذلك يؤذي النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن: { وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ }.... الآية.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم مات، وقد ملك قـيـلة بنت الأشعث، فتزوّجها عكرمة بن أبـي جهل بعد ذلك، فشقّ علـى أبـي بكر مشقة شديدة، فقال له عمر: يا خـلـيفة رسول الله إنها لـيست من نسائه إنها لـم يخيرِّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولـم يحجبها، وقد برأها منه بـالردّة التـي ارتدّت مع قومها، فـاطمأنّ أبو بكر وسكن.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا عبد الأعلـى، قال: ثنا داود، عن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفـي وقد ملك بنت الأشعث بن قـيس، ولـم يجامعها، ذكر نـحوه.

وقوله: { إنَّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيـماً } يقول: إن أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده عند الله عظيـم من الإثم.