التفاسير

< >
عرض

وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٥
-النساء

جامع البيان في تفسير القرآن

اختلف أهل التأويل في معنى الطول الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، فقال بعضهم: هو الفضل والمال والسعة. ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } قال: الغنى.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } يقول: من لم يكن له سعة.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } يقول: من لم يستطع منكم سعة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قوله: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } قال: الطَّوْل: الغنى.

حدثني ابن المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } قال: الطول: السعة.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } أما قوله طولاً: فسعة من المال.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً }... الآية، قال: طولاً: لا يجد ما ينكح به حرّة.

وقال آخرون: معنى الطول في هذا الموضع: الهَوَى. ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنى عبد الجبار بن عمرو، عن ربيعة أنه قال في قول الله: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } قال: الطَّوْلُ: الهوى، قال: ينكح الأمة إذا كان هواه فيها.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان ربيعة يلين فيه بعض التليين، كان يقول: إذا خشي على نفسه إذا أحبها ـ أي الأمة وإن كان يقدر على نكاح غيرها فإني أرى أن ينكحها.

حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر أنه سئل عن الحرّ يتزوّج الأمة، فقال: إن كان ذا طول فلا. قيل: إن وقع حبّ الأمة في نفسه؟ قال: إن خشي العنت فليتزوّجها.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن عبيدة، عن الشعبي، قال: لا يتزوّج الحرّ الأمة إلا أن لا يجد. وكان إبراهيم يقول: لا بأس به.

حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سمعت عطاء يقول: لا نكره أن ينكح ذو اليسار الأمة إذا خشي أن يُسْعَى بها.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى الطول في هذا الموضع: السعة والغنى من المال، لإجماع الجميع على أن الله تبارك وتعالى لم يحرّم شيئاً من الأشياء سوى نكاح الإماء لواجد الطول إلى الحرّة، فأحلّ ما حرّم من ذلك عند غلبته المحرم عليه له لقضاء لذة. فإذ كان ذلك إجماعاً من الجميع فيما عدا نكاح الإماء لواجد الطول، فمثله في التحريم نكاح الإماء لواجد الطول: لا يحلّ له من أجل غلبة هوى سرّه فيها، لأن ذلك مع وجوده الطول إلى الحرة منه قضاء لذة وشهوة وليس بموضع ضرورة تدفع ترخصه كالميتة للمضطر الذي يخاف هلاك نفسه فيترخص في أكلها ليحيـى بها نفسه، وما أشبه ذلك من المحرّمات اللواتي رخص الله لعباده في حال الضرورة والخوف على أنفسهم الهلاك منه ما حرم عليهم منها فيغيرها من الأحوال. ولم يرخص الله تبارك وتعالى لعبد في حرام لقضاء لذة، وفي إجماع الجميع على أن رجلاً لو غلبه هوى امرأة حرة أو أمرأة أنها لا تحلّ له إلا بنكاح أو شراء على ما أذن الله به، ما يوضح فساد قول من قال: معنى الطول في هذا الموضع: الهوى، وأجاز لواجد الطول لحرة نكاح الإماء.

فتأويل الآية إذ كان الأمر على ما وصفنا: ومن لم يجد منكم سعة من مال لنكاح الحرائر، فلينكح مما ملكت أيمانكم. وأصل الطَّوْل: الإفضال، يقال منه: طال عليه يَطُول طَوْلاً في الإفضال، وطال يَطُول طُولاً في الطول الذي هو خلاف القصر.

القول في تأويل قوله تعالى: { أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ }.

يعني بذلك: ومن لم يستطع منكم أيها الناس طولاً، يعني: من الأحرار أن ينكح المحصنات وهنّ الحرائر المؤمنات اللواتي قد صدّقن بتوحيد الله وبما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحقّ.

وبنحو ما قلنا في المحصنات قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: { أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ } يقول: أن ينكح الحرائر، فلينكح من إماء المؤمنين.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: { أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } قال: المحصنات الحرائر، فلينكح الأمة المؤمنة.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدّي: أما فتياتكم: فإماؤكم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: { أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مِّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } قال: أما من لم يجد ما ينكح به الحرّة فيتزوّج الأمة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } قال: من لم يجد ما ينكح به حرة فينكح هذه الأمة فيتعفف بها ويكفيه أهلها مؤنتها، ولم يحل الله ذلك لأحد إلا لمن لا يجد ما ينكح به حرّة وينفق عليها، ولم يحلّ له حتى يخشى العنت.

حدثنا المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا سفيان، عن هشام الدستوائي، عن عامر الأحول، عن الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة، ومن وجد طَوْلاً لحرة فلاينكح أمة.

واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة من قراء الكوفيين والمكيين: { أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ } بكسر الصاد مع سائر ما في القرآن من نظائر ذلك سوى قوله: { { وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ } [النساء: 24] فإنهم فتحوا الصاد منها، ووجهوا تأويله إلى أنهنّ محصنات بأزواجهنّ، وأن أزواجهنّ هم أحصنوهنّ. وأما سائر ما في القرآن فإنهم تأوّلوا في كسرهم الصاد منه إلى أن النساءهنّ أحصنّ أنفسهنّ بالعفة. وقرأت عامة قراء المدينة والعراق ذلك كله بالفتح، بمعنى أن بعضهن أحصنَّهن أزواجهن، وبعضهن أحضهن حريتهن أو إسلامهن. وقرأ بعض المتقدمين كل ذلك بالكسر، بمعنى أنهن عففن وأحصن أنفسهنّ. وذكرت هذه القراءة أعني بكسر الجميع عن علقمة على الاختلاف في الرواية عنه.

قال أبو جعفر: والصواب عندنا من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار مع اتفاق ذلك في المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب، إلا في الحرف الأوّل من سورة النساء، وهو قوله: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } فإني لا أستجيز الكسر في صاده لاتفاق قراءة الأمصار على فتحها. ولو كانت القراءة بكسرها مستفيضة استفاضتها بفتحها كان صواباً القراءة بها كذلك لما ذكرنا من تصرّف الإحصان في المعاني التي بيناها، فيكون معنى ذلك لو كسر: والعفائف من النساء حرام عليكم، إلا ما ملكت أيمانكم، بمعنى أنهنّ أحصنّ أنفسهنّ بالعفة. وأما الفتيات فإنهنّ جمع فتاة، وهنّ الشواب من النساء، ثم يقال لكل مملوكة ذات سنّ أو شابة فتاة، والعبد فتى.

ثم اختلف أهل العلم في نكاح الفتيات غير المؤمنات، وهل عنى الله بقوله: { مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } تحريم ما عدا المؤمنات منهنّ، أم ذلك من الله تأديب للمؤمنين؟ فقال بعضهم: ذلك من الله تعالى ذكره دلالة على تحريم نكاح إماء المشركين. ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } قال: لا ينبغي أن يتزوّج مملوكة نصرانية.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { مِّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } قال: لا ينبغي للحرّ المسلم أن ينكح المملوكة من أهل الكتاب.

حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت أبا عمرو، وسعيد بن عبد العزيز، ومالك ابن أنس، ومالك بن عبد الله بن أبي مريم، يقولون: لا يحلّ لحرّ مسلم ولا لعبد مسلم الأمة النصرانية، لأن الله يقول: { مِّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } يعني بالنكاح.

وقال آخرون: ذلك من الله على الإرشاد والندب، لا على التحريم. وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، قال: قال أبو ميسرة، أما أهل الكتاب بمنزلة الحرائر.

ومنهم أبو حنيفة وأصحابه. واعتلوا لقولهم بقول الله: { { أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [المائدة: 5] قالوا: فقد أحلّ الله محصنات أهل الكتاب عاما، فليس لأحد أن يخصّ منهنّ أمة ولا حرّة. قالوا: ومعنى قوله: { فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ }: غير المشركات من عبدة الأوثان.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: هو دلالة على تحريم نكاح إماء أهل الكتاب فإنهن لا يحللن إلا بملك اليمين؛ وذلك أن الله جلّ ثناؤه أحلّ نكاح الإماء بشروط، فما لم تجتمع الشروط التي سماها فيهنّ، فغير جائز لمسلم نكاحهنّ.

فإن قال قائل: فإن الآية التي في المائدة تدلّ على إباحتهنّ بالنكاح؟ قيل: إن التي في المائدة قد أبان أن حكمها في خاصّ من محصناتهم، وأنها معنّى بها حرائرهم دون إمائهم، قوله: { مِّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } وليست إحدى الآيتين دافعة حكمها حكم الأخرى، بل إحداهما مبينة حكم الأخرى، وإنما تكون إحداهما دافعة حكم الأخرى لو لم يكن جائزاً اجتماع حكميهما على صحة، فأما وهما جائز اجتماع حكمهما على الصحة، فغير جائز أن يحكم لإحداهما بأنها دافعة حكم الأخرى إلا بحجة التسليم لها من خبر أو قياس، ولا خبر بذلك ولا قياس، والآية محتملة ما قلنا: والمحصنات من حرائر الذين أوتوا الكتاب من قبلكم دون إمائهم.

القول في تأويل قوله تعالى: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـٰنِكُمْ بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ }.

وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم وتأويل ذلك: ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، فلينكح بعضكم من بعض، بمعنى: فلينكح هذا فتاة هذا. فـ«البعض» مرفوع بتأويل الكلام، ومعناه إذ كان قوله: { فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } في تأويل: فلينكح مما ملكت أيمانكم، ثم ردّ بعضكم على ذلك المعنى فرفع. ثم قال جلّ ثناؤه: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـٰنِكُمْ }: أي والله أعلم بإيمان من آمن منكم بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله، فصدق بذلك كله منكم، يقول: فلينكح من لم يستطع منكم طولاً لحرة من فتياتكم المؤمنات، لينكح هذا المقتر الذي لا يجد طولاً لحرّة من هذا الموسر فتاته المؤمنة التي قد أبدت الإيمان فأظهرته وكِلوا سرائرهنّ إلى الله، فإن علم ذلك إلى الله دونكم، والله أعلم بسرائركم وسرائرهن.

القول في تأويل قوله تعالى: { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ }.

يعني بقوله جل ثناؤه: { فَٱنكِحُوهُنَّ } فتزوّجوهنّ، وبقوله: { بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ }: بإذن أربابهن وأمرهم إياكم بنكاحهنّ ورضاهم ويعني بقوله: { وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }: وأعطوهنّ مهورهنّ: كما:

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } قال: الصداق.

ويعني بقوله { بِٱلْمَعْرُوفِ } على ما تراضيتم به مما أحلّ الله لكم وأباحه لكم أن تجعلوه مهوراً لهن.

القول في تأويل قوله: { مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ }.

يعني بقوله: { مُحْصَنَـٰت } عفيفات، { غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ } غير مزانيات، { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } يقول: ولا متخذات أصدقاء على السفاح. وقد ذكر أن ذلك قيل كذلك، لأن الزواني كنّ في الجاهلية في العرب المعلنات بالزنا، والمتخذات الأخدان: اللواتي قد حبسن أنفسهنّ على الخليل والصديق للفجور بها سرّاً دون الإعلان بذلك. ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: { مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } يعني: تنكحوهنّ عفائف غير زواني في سرّ ولا علانية. { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } يعني: أخلاّء.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: { غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ } المسافحات: المعالنات بالزنا. { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } ذات الخليل الواحد. قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما ظهر من الزنا، ويستحلون ما خفي، يقولون: أما ما ظهر منه فهو لؤم، وأما ما خفي فلا بأس بذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى: { { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [الأنعام: 151].

حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر، قال: سمعت داود يحدّث عن عامر، قال: الزنا زنيان: تزني بالخدن ولا تزني بغيره، وتكون المرأة شؤماً. ثم قرأ: { مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ }.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدّي: أما المحصنات: فالعفائف، فلتنكح الأمة بإذن أهلها محصنة، والمحصنات: العفائف، غير مسافحة، والمسافحة: المعالنة بالزنا، ولا متخذة صديقاً.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } قال: الخيلة يتخذها الرجل، والمرأة تتخذ الخليل.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشربن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { مُحْصَنَـٰتٍ غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } المسافحة: البغيّ التي تؤاجر نفسها مَن عرض لها، وذات الخدن: ذات الخليل الواحد. فنهاهم الله عن نكاحهما جميعاً.

حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: { مُحْصَنَـٰتٍ غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } أما المحصنات، فهنّ الحرائر، يقول: تزوّج حرّة. وأما المسافحات: فهنّ المعلنات بغير مهر. وأما متخذات أخدان: فذات الخليل الواحد المسترّة به. نهى الله عن ذلك.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي، قال: الزنا وجهان قبيحان، أحدهما أخبث من الآخر: فأما الذي هو أخبثهما فالمسافحة التي تفجر بمن أتاها، وأما الآخر فذات الخدن.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { مُحْصَنَـٰتٍ غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } قال: المسافح: الذي يَلْقَى المرأة فيفجُر بها، ثم يذهب وتذهب. والمخادن: الذي يقيم معها على معصية الله وتقيم معه، فذاك «الأخدان».

القول في تأويل قوله تعالى: { فَإِذَا أُحْصِنَّ }.

اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: «فإذا أَحْصَنَّ» بفتح الألف، بمعنى: إذا أسلمن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإسلام.

وقرأه آخرون: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } بمعنى: فإذا تزوجن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإزواج.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في أمصار الإسلام، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب في قراءته الصواب. فإن ظنّ ظانّ أن ما قلنا في ذلك غير جائز إذ كانتا مختلفتي المعنى، وإنما تجوز القراءة بالوجهين فيما اتفقت عليه المعاني فقد أغفل؛ وذلك أن معنيـي ذلك وإن اختلفا فغير دافع أحدهما صاحبه، لأن الله قد أوجب على الأمة ذات الإسلام وغير ذات الإسلام على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الحد، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْها كِتابَ اللّهِ وَلا يُثَرّبْ عَلَيْها، ثُمَّ إنْ عادتْ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّهِ وَلاَ يُثرّبْ عَلَيْها، ثُمَّ إنْ عادَتْ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّهِ وَلا يُثَرّبْ عَلَيْها، ثُمَّ إنْ زنَتْ الرَّابِعَةَ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّهِ ولْيَبِعها ولَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ" . وقال صلى الله عليه وسلم: "أقِيمُوا الحُدُودَ على ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ" . فلم يخصص بذلك ذات زوج منهنّ ولا غير ذات زوج، فالحدود واجبة على موالي الإماء إقامتها عليهنّ إذا فجرن بكتاب الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما:

حدثكم به ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا مالك بن أنس عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة تزني ولم تحصن، قال: "اجْلِدْها، فإنْ زَنَتْ فاجْلِدْها، فإنْ زَنَتْ فاجْلِدْها، فإنْ زَنَتْ ـ فقال في الثالثة أو الرابعة: فَبِعْهَا وَلَوْ بِضٍفِيرٍ" والضفير: الشعر.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فذكر نحوه.

فقد بين أن الحدّ الذي وجب إقامته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإماء هو ما كان قبل إحصانهنّ؛ فأما ما وجب من ذلك عليهنّ بالكتاب، فبعد إحصانهنّ؟ قيل له: قد بينا أن أحد معاني الإحصان: الإسلام، وأن الآخر منه التزويج وأن الإحصان كلمة تشتمل على معان شتى، وليس في رواية من روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأمة تزنى قبل أن تحصن، بيان أن التي سئل عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم هي التي تزنى قبل التزويج، فيكون ذلك حجة لمحتجّ في أن الإحصان الذي سنّ صلى الله عليه وسلم حدّ الإماء في الزنا هو الإسلام دون التزويج، ولا أنه هو التزويج دون الإسلام. وإذ كان لا بيان في ذلك، فالصواب من القول، أن كل مملوكة زنت فواجب على مولاها إقامة الحدّ عليها، متزوّجة كانت أو غير متزوّجة، لظاهر كتاب الله والثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من أخرجه من وجوب الحدّ عليه منهنّ بما يجب التسليم له. وإذ كان ذلك كذلك تبين به صحة ما اخترنا من القراءة في قوله: { فَإِذَا أُحْصِنَّ }. فإن ظنّ ظانّ أن في قول الله تعالى ذكره: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } دلالة على أن قوله: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } معناه: تزوّجن، إذ كان ذكر ذلك بعد وصفهنّ بالإيمان بقوله: { مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } وحسب أن ذلك لا يحتمل معنى غير معنى التزويج، مع ما تقدم ذلك من وصفهنّ بالإيمان، فقد ظنّ خطأ؛ وذلك أنه غير مستحيل في الكلام أن يكون معنى ذلك: ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فيتاتكم المؤمنات، فإذا هنّ آمن فإن أتين بفاحشة، فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب، فيكون الخبر بياناً عما يجب عليهنّ من الحدّ إذا أتين بفاحشة بعد إيمانهنّ بعد البيان عما لا يجوز لناكحهنّ من المؤمنين من نكاحهنّ، وعمن يجوز نكاحه له منهنّ. فإذ كان ذلك غير مستحيل في الكلام فغير جائز لأحد صرف معناه إلى أنه التزويج دون الإسلام، من أجل ما تقدّم من وصف الله إياهنّ بالإيمان غير أن الذي نختار لمن قرأ: «مُحْصَناتٍ غيَرَ مُسافِحاتٍ» بفتح الصاد في هذا الموضع أن يقرأ { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ } بضم الألف، ولمن قرأ { مُحْصَنَـٰتٍ } بكسر الصاد فيه، أن يقرأ: «فإذَا أحْصَنَّ» بفتح الألف، لتأتلف قراءة القارىء على معنى واحد وسياق واحد، لقرب قوله: «محصنات» من قوله: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } ولو خالف من ذلك لم يكن لحناً، غير أن وجه القراءة ما وصفت.

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك نظير اختلاف القراء في قراءته، فقال بعضهم: معنى قوله { فَإِذَا أُحْصِنَّ }: فإذا أسلمن. ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن سعيد بن أبي معشر، عن إبراهيم، أن ابن مسعود، قال: إسلامها إحصانها.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم أن سليمان بن مهران حدثه عن إبراهيم بن يزيد، عن همام بن الحرث: أن النعمان بن عبد الله بن مقرّن سأل عبد الله بن مسعود، فقال: أَمَتي زنت؟ فقال: اجلدها خمسين جلدة! قال: إنها لم تحصن! فقال ابن مسعود: إحصانها إسلامها.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم: أن النعمان بن مقرن سأل ابن مسعود عن أمة زنت وليس لها زوج، فقال: إسلامها إحصانها.

حدثني ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم أن النعمان قال: قلت لابن مسعود: أمتي زنت؟ قال: اجلدها، قلت: فإنها لم تحصن! قال: إحصانها إسلامها.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: كان عبد الله يقول: إحصانها: إسلامها.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه تلا هذه الآية: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قال: يقول: إذا أسلمن.

حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيـى بن أبي زائدة، عن أشعث، عن الشعبي، قال: قال عبد الله: الأمة إحصانها: إسلامها.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال مغيرة: أخبرنا عن إبراهيم أنه كان يقول: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } يقول: إذا أسلمن.

حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيـى بن أبي زائدة، عن أشعث، عن الشعبي، قال: الإحصان: الإسلام.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن برد بن سنان، عن الزهري، قال: جلد عمر رضي الله عنه ولائد أبكاراً من ولائد الإمارة في الزنا.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } يقول: إذا أسلمن.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن سالم والقاسم، قالا: إحصانها: إسلامها وعفافها، في قوله: { فَإِذَا أُحْصِنَّ }.

وقال آخرون: معنى قوله: { فَإِذَا أُحْصِنَّ }: فإذا تزوّجن. ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } يعني: إذا تزوّجن حرّاً.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } يقول: إذا تزوّجن.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة أن ابن عباس كان يقرأ: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } يقول: تزوّجن.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قال: إحصان الأمة أن ينكحها الحرّ، وإحصان العبد أن ينكح الحرّة.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، أنه سمع سعيد بن جبير يقول: لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوّج.

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قال: أحصنتهن البُعُولة.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قال: أحصنتهن البعولة.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عياض بن عبد الله، عن أبي الزناد أن الشعبي أخبره، أن ابن عباس أخبره أنه أصاب جارية له قد كانت زنت، وقال: أحصنتها.

قال أبو جعفر: وهذا التأويل على قراءة من قرأ: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } بضمّ الألف، وعلى تأويل من قرأ: «فإذا أَحْصَنَّ» بفتحها. وقد بينا الصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا.

القول في تأويل قوله تعالى: { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ }:

يعني جل ثناؤه بقوله: { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ }: فإن أتت فتياتكم، وهنَّ إماؤكم، بعد ما أَحْصنّ باسلام، أو أحصنّ بنكاح بفاحشة، وهي الزنا، { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } يقول: فعليهنّ نصف ما على الحرائر من الحدّ إذا هن زنين قبل الإحصان بالأزواج والعذاب الذي ذكره الله تبارك وتعالى في هذا الموضع هو الحدّ. وذلك النصف الذي جعله الله عذاباً لمن أتى بالفاحشة من ازاء إذا هنّ أحصنّ خمسون جلدة، ونفي ستة أشهر، وذلك نصف عام، لأن الواجب على الحرّة إذا هي أتت بفاحشة قبل الإحصان بالزوج: جلد مائة، ونفي حَوْل، فالنصف من ذلك خمسون جلدة، ونفي نصف سنة، وذلك الذي جعله الله عذاباً للإماء المحصنات إذا هن أتين بفاحشة. كما:

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ }.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } خمسون جلدة، ولا نفي ولا رجم.

فإن قال قائل: وكيف { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } وهل يكون الجلد على أحد؟ قيل: إن معنى ذلك فلازم أبدانهنّ أن تجلد نصف ما يلزم أبدان المحصنات، كما يقال: عليّ صلاة يوم، بمعنى: لازم عليّ أن أصلي صلاة يوم، وعليّ الحجّ والصيام مثل ذلك، وكذلك عليه الحدّ بمعنى لازم له إمكان نفسه من الحدّ ليقام عليه.

القول في تأويل قوله تعالى: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ }.

يعني تعالى ذكره بقوله ذلك: هذا الذي أبحت أيها الناس من نكاح فتياتكم المؤمنات لمن لا يستطيع منكم طولاً لنكاح المحصنات المؤمنات، أبحته لمن خشي العنت منكم دون غيره ممن لا يخشى العنت.

واختلف أهل التأويل في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو الزنا. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثاً، عن مجاهد، قوله: { لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ } قال: الزنا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن العوّام، عمن حدثه، عن ابن عباس أنه قال: ما ازْلَحَفّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلاً.

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: العنت: الزنا.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبيد بن يحيـى، قال: ثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: العنت: الزنا.

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: ما ازلحفّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلاً، ذلك لمن خشي العنت منكم.

حدثنا أبو سلمة، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير نحوه.

حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ } قال: الزنا.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي حماد، قال: ثنا فضيل، عن عطية العوفي، مثله.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: { لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ } قال: الزنا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبيدة، عن الشعبي وجويبر، عن الضحاك، قالا: العنت: الزنا.

حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ } قال: العنت: الزنا.

وقال آخرون: معنى ذلك: العقوبة التي تُعْنِتُهُ، وهي الحدّ.

والصواب من القول في قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ }: ذلك لمن خاف منكم ضرراً في دينه وبدنه. وذلك أن العنت هو ما ضرّ الرجل، يقال منه: قد عَنِتَ فلان فهو يَعْنَتُ عَنتاً: إذا أتى ما يضره في دين أو دنيا، ومنه قول الله تبارك وتعالى: { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } ويقال: قد أعنتني فلان فهو يعنتني: إذا نالني بمضرّة؛ وقد قيل: العنت: الهلاك. فالذين وجهوا تأويل ذلك إلى الزنا، قالوا: الزنا ضرر في الدين، وهو من العنت. والذين وجهوه إلى الإثم، قالوا: الآثام كلها ضرر في الدين وهي من العنت. والذين وجهوه إلى العقوبة التي تعنته في بدنه من الحدّ، فإنهم قالوا: الحدّ مضرّة على بدن المحدود في دنياه، وهو من العنت. وقد عمّ الله بقوله: { لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ } جميع معاني العنت، ويجمع جميع ذلك الزنا، لأنه يوجب العقوبة على صاحبه في الدنيا بما يعنت بدنه، ويكتسب به إثما ومضرّة في دينه ودنياه. وقد اتفق أهل التأويل الذي هم أهله، على أن ذلك معناه. فهو وإن كان في عينه لذّة وقضاء شهوة فإنه بأدائه إلى العنت منسوب إليه موصوف به أن كان للعنت سبباً.

القول في تأويل قوله تعالى: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.

يعني جلّ ثناؤه بذلك: وأن تصبروا أيها الناس عن نكاح الإماء خير لكم، والله غفور لكم نكاح الإماء أن تنكحوهنّ على ما أحلّ لكم وأذن لكم به، وما سلف منكم في ذلك إن أصلحتم أمور أنفسكم فيما بينكم وبين الله، رحيم بكم، إذ أذن لكم في نكاحهنّ عند الافتقاء وعدم الطول للحرة.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } قال: عن نكاح الأمة.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا عن مجاهد: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } قال: عن نكاح الإماء.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } يقول: وأن تصبرَ ولا تنكح الأمة فيكون ولدك مملوكين فهو خير لك.

حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } يقول: وأن تصبروا عن نكاح الإماء خير لكم، وهو حلّ.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } يقول: وأن تصبروا عن نكاحهنّ، يعني: نكاح الإماء خير لكم.

حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } قال: أن تصبروا عن نكاح الإماء خير لكم.

حدثني المثنى، قال: ثنا حبان، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } قال: أن تصبروا عن نكاح الأمة خير لكم.

حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } قال: وأن تصبروا عن الأمة خير لكم.

و«أن» في قوله: { وَأَن تَصْبِرُواْ } في موضع رفع بـ«خير»، بمعنى: والصبر عن نكاح الإماء خير لكم.