التفاسير

< >
عرض

إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ
١١
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
١٢
-الأنفال

جامع البيان في تفسير القرآن

يقول تعالـى ذكره: ولتطمئن به قلوبكم إذ يغشيكم النعاس. ويعنـي بقوله: { يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ }: يـلقـي علـيكم النعاس، { أمَنَةً } يقول: أمانا من الله لكم من عدوّكم أن يغلبكم، وكذلك النعاس فـي الـحرب أمنة من الله عزّ وجلّ.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو نعيـم، قال: ثنا سفـيان، عن عاصم، عن أبـي رزين، عن عبد الله، قال: النعاس فـي القتال أمنة من الله عزّ وجلّ، وفـي الصلاة من الشيطان.

حدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، فـي قوله: { يغشاكم النعاس أمنة منه }، عن عاصم، عن أبـي رزين، عن عبد الله، بنـحوه، قال: قال عبد الله: فذكر مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن سفـيان، عن عاصم، عن أبـي رزين، عن عبد الله بنـحوه.

والأمنة: مصدر من قول القائل: أمنت من كذا أَمَنَةً وأماناً وأمناً، وكلّ ذلك بـمعنى واحد.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { أمَنَةً منْهُ }: أمانا من الله عزّ وجلّ.

قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { أمَنَةً } قال: أمنا من الله.

حدثنـي يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أمَنَةً مِنْهُ } قال: أنزل الله عزّ وجلّ النعاس أمنة من الـخوف الذي أصابهم يوم أُحد. فقرأ: { ثُمَّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَم أمَنَةً نُعاساً }.

واختلفت القراء فـي قراءة قوله: «إذْ يُغَشاكُمُ النُّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ» فقرأ ذلك عامَّة قراء أهل الـمدينة «يُغَشِيكُمُ النُّعاسَ» بضم الـياء وتـخفـيف الشين ونصب «النعاس»، من أغشاهم الله النعاس، فهو يغشيهم. وقرأته عامة قراء الكوفـيـين: { يُغَشِّيكُم } بضم الـياء وتشديد الشين من غشّاهم الله النعاس، فهو يُغَشّيهم. وقرأ ذلك بعض الـمكيـين والبصريـين: «يَغْشاكُم النُّعاسُ» بفتـح الـياء ورفع «النعاس»، بـمعنى غشيهم النعاس، فهو يغشاهم واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله فـي آل عمران: { يَغْشَى طائفَةً }.

وأولـى ذلك بـالصواب: { إذْ يُغَشِّيكُم } علـى ماذكرت من قراءة الكوفـيـين، لإجماع جميع القرّاء علـى قراءة قوله: { ويُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً } بتوجيه ذلك إلـى أنه من فعل الله عزّ وجلّ، فكذلك الواجب أن يكون كذلك: { يُغَشِّيكُم } إذ كان قوله: { ويُنَزّلُ } عطفـاً علـى «يُغَشّي»، لـيكون الكلام متسقاً علـى نـحو واحد.

وأما قوله: { ويُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِـيِّطَهِّرَكُمْ بِهِ } فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر، لـيطهر به الـمؤمنـين لصلاتهم لأنهم كانوا أصبحوا يومئذٍ مُـجْنِبـين علـى غير ماء فلـما أنزل الله علـيهم الـماء اغتسلوا وتطهروا. وكان الشيطان وسوس لهم بـما حزنهم به من إصبـاحهم مـجنبـين علـى غير ماء، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بـالـمطر فذلك ربطه علـى قلوبهم وتقويته أسبـابهم وتثبـيته بذلك الـمطر أقدامهم، لأنهم كانوا التقوا مع عدوّهم علـى رَمْلة هَشَّاء فلبَّدَها الـمطر حتـى صارت الأقدام علـيها ثابتة لا تسوخ فـيها، توطئة من الله عزّ وجلّ لنبـيه علـيه الصلاة والسلام وأولـيائه أسبـاب التـمكن من عدوهم والظفر بهم. وبـمثل الذي قلنا، تتابعت الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل العلـم. ذكر الأخبـار الواردة بذلك:

حدثنا هارون بن إسحاق، قال: ثنا مصعب بن الـمقدام، قال: ثنا إسرائيـل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علـيّ رضي الله عنه، قال: أصابنا من اللـيـل طشٌّ من الـمطر يعنـي اللـيـلة التـي كانت فـي صبـيحتها وقعة بدر فـانطلقنا تـحت الشجر والـحجف، نستظلّ تـحتها من الـمطر، وبـات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به: "اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدْ فـي الأرْضِ" فلـما أن طلع الفجر نادى: الصَّلاةَ عِبـادَ اللّهِ، فجاء الناس من تـحت الشجر والـحجف، فصلـى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرّض علـى القتال.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص بن غياث وأبو خالد، عن داود، عن سعيد بن الـمسيب: { ماءً لِـيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } قال: طشّ يوم بدر.

حدثنـي الـحسن بن يزيد، قال: ثنا حفص، عن داود، عن سعيد، بنـحوه.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا مـحمد أبـي عديّ وعبد الأعلـى، عن داود، عن الشعبـيّ وسعيد بن الـمسيب، قالا: طش يوم بدر.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا ابن أبـي عديّ، عن داود، عن الشعبـي وسعيد بن الـمسيب فـي هذه الآية: { يُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِـيُطَهَّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ } قالا: طش كان يوم بدر، فثبت الله به الأقدام.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: «إذْ يَغْشاكُمُ النُّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ»... الآية، ذكر لنا أنهم مطروا يومئذٍ حتـى سال الوادي ماء، واقتتلوا علـى كثـيب أعفر، فلبده الله بـالـماء، وشرب الـمسلـمون وتوضئوا وسَقَوْا، وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قال: نزل النبـيّ صلى الله عليه وسلم يعنـي حين سار إلـى بدر والـمسلـمون بـينهم وبـين الـماء رملة دعصة فأصاب الـمسلـمين ضعف شديد، وألقـى الشيطان فـي قلوبهم الغيظ، فوسوس بـينهم: تزعمون أنكم أولـياء الله وفـيكم رسوله، وقد غلبكم الـمشركون علـى الـماء وأنتـم تصلون مـجنبـين فأمطر الله علـيهم مطراً شديداً، فشرب الـمسلـمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان. وثبت الرمل حين أصابه الـمطر، ومشي الناس علـيه والدوابّ فساروا إلـى القوم، وأمدّ الله نبـيه بألف من الـملائكة، فكان جبريـل علـيه السلام فـي خمسمائة من الـملائكة مـجنبة، وميكائيـل فـي خمسمائة مـجنبة.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: «إذْ يُغْشاكُمُ النُّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ»... إلـى قوله: { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ } وذلك أن الـمشركين من قريش لـما خرجوا لـينصروا العير ويقاتلوا عنها، نزلوا علـى الـماء يوم بدر، فغلبوا الـمؤمنـين علـيه، فأصاب الـمؤمنـين الظمأ، فجعلوا يصلون مـجنبـين مـحدثـين، حتـى تعاظم ذلك فـي صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله من السماء ماء حتـى سال الوادي، فشرب الـمسلـمون وملئوا الأسقـية، وسقوا الركاب واغتسلوا من الـجنابة، فجعل الله فـي ذلك طُهوراً، وثبت الأقدام. وذلك أنه كانت بـينهم وبـين القوم رملة فبعث الله علـيها الـمطر. فضربها حتـى اشتدت، وثبتت علـيها الأقدام.

حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: ثنا أحمد بن الـمفضل، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: بـينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمسلـمون، فسبقهم الـمشركون إلـى ماء بدر، فنزلوا علـيه، وانصرف أبو سفـيان وأصحابه تلقاء البحر، فـانطلقوا. قال: فنزلوا علـى أعلـى الوادي، ونزل مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي أسفله. فكان الرجل من أصحاب مـحمد علـيه الصلاة والسلام يُجنب فلا يقدر علـى الـماء، فـيصلـي جنبـاً، فألقـى الشيطان فـي قلوبهم، فقال: كيف ترجون أن تظهروا علـيهم وأحدكم يقوم إلـى الصلاة جنبـاً علـى غير وضوء؟ قال: فأرسل الله علـيهم الـمطر، فـاغتسلوا وتوضئوا وشربوا، واشتدت لهم الأرض، وكانت بطحاء تدخـل فـيها أرجلهم، فـاشتدّت لهم من الـمطر واشتدّوا علـيها.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: غلب الـمشركون الـمسلـمين فـي أوّل أمرهم علـى الـماء فظمىء الـمسلـمون، وصلوا مـجنبـين مـحدثـين، وكانت بـينهم رمال، فألقـى الشيطان فـي قلوب الـمؤمنـين الـحزن، فقال: تزعمون أن فـيكم نبـيًّا وأنكم أولـياء الله، وقد غلبتـم علـى الـماء وتصلون مـجنبـين مـحدثـين؟ قال: فأنزل الله ماء من السماء، فسال كلّ واد، فشرب الـمسلـمون وتطهروا، وثبتت أقدامهم، وذهبت وسوسة الشيطان.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: { ماءً لِـيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } قال: الـمطر أنزله علـيهم قبل النعاس. { رِجْزَ الشَّيْطَانِ } قال: وسوسته. قال: فأطفأ بـالـمطر الغبـار، والتبدت به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم.

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { ماءً لِـيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } أنزله علـيهم قبل النعاس، طبق الـمطر الغبـار، ولبد به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به الأقدام.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { ماءً لِـيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } قال: القطر { ويُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } وساوسه. أطفأ بـالـمطر الغبـار، ولبد به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، رجز الشيطان: وسوسته.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَيُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِـيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } قال: هذا يوم بدر أنزل علـيهم القطر. { وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ } الذي ألقـى فـي قلوبكم لـيس لكم بهؤلاء طاقة. { وَلِـيَرْبِطَ علـى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ }.

حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: ثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { إذْ يَغْشاكُمُ النُّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ... } إلـى قوله: { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ }: إن الـمشركين نزلوا بـالـماء يوم بدر، وغلبوا الـمسلـمين علـيه، فأصاب الـمسلـمين الظمأ، وصلوا مـحدثـين مـجنبـين، فألقـى الشيطان فـي قلوب الـمؤمنـين الـحزن، ووسوس فـيها: إنكم تزعمون أنكم أولـياء الله وأن مـحمداً نبـيّ الله، وقد غلبتـم علـى الـماء وأنتـم تصلون مـحدثـين مـجنبـين فأمطر الله السماء حتـى سال كلّ واد، فشرب الـمسلـمون وملئوا أسقـيتهم وسقوا دوابهم واغتسلوا من الـجنابة، وثبت الله به الأقدام وذلك أنهم كان بـينهم وبـين عدوّهم رملة لا تـجوزها الدوابّ، ولا يـمشي فـيها الـماشي إلاَّ بجهد، فضربها الله بـالـمطر حتـى اشتدت وثبتت فـيها الأقدام.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: «إذْ يَغْشاكُمُ النُّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ»: أي أنزلت علـيكم الأمنة حتـى نـمتـم لا تـخافون، ونزل علـيكم من السماء الـمطر الذي أصابهم تلك اللـيـلة، فحبس الـمشركون أن يسبقوا إلـى الـماء، وخُـلـي سبـيـلُ الـمؤمنـين إلـيه. { لِـيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِـيَرْبِطَ علـى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَام }: لـيذهب عنهم شكّ الشيطان بتـخويفه إياهم عدوّهم، واستـجلاد الأرض لهم، حتـى انتهوا إلـى منزلهم الذي سبق إلـيه عدوّهم.

حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: ثنا أحمد بن الـمفضل، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: ثم ذكر ما ألقـى الشيطان فـي قلوبهم من شأن الـجنابة وقـيامهم يصلون بغير وضوء، فقال: «إذْ يَغْشاكُمُ النُّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ ويُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِـيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِـيَرْبِطَ علـى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ» حتـى تشتدّون علـى الرمل، وهو كهيئة الأرض.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا ابن علـية، قال: ثنا داود بن أبـي هند، قال: قال رجل عند سعيد بن الـمسيب، وقال مرّة قرأ: { وَيُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِـيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } فقال سعيد: إنـما هي: «وَيُنزِلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِـيُطْهِرَكُمْ بِهِ» قال: وقال الشعبـي: كان ذلك طشًّا يوم بدر.

وقد زعم بعض أهل العلـم بـالغريب من أهل البصرة، أن مـجاز قوله: { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَام } ويفرغ علـيهم الصبر وينزله علـيهم، فـيثبتون لعدوّهم. وذلك قول خلاف لقول جميع أهل التأويـل من الصحابة والتابعين، وحسب قول خطأ أن يكون خلافـاً لقول من ذكرنا. وقد بـيَّنا أقوالهم فـيه، وأن معناه: ويثبت أقدام الـمؤمنـين بتلبـيد الـمطر الرمل حتـى لا تسوخ فـيه أقدامهم وحوافر دوابهم.

وأما قوله: { إذْ يُوحي رَبُّكَ إلـى الَـملائِكَةِ أنّـي مَعَكُمْ } أنصركم، { فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } يقول: قوّوا عزمهم، وصححوا نـياتهم فـي قتال عدوّهم من الـمشركين. وقد قـيـل: إن تثبـيت الـملائكة الـمؤمنـين كان حضورهم حربهم معهم، وقـيـل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم، وقـيـل: كان ذلك بأن الـملك يأتـي الرجل من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم، يعنـي الـمشركين يقولون: والله لئن حملوا علـينا لننكشفن، فـيحدث الـمسلـمون بعضهم بعضاً بذلك، فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحيَ الله إلـى ملائكته.

وأما ابن إسحاق، فإنه قال بـما:

حدثنا بن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } أي فآزروا الذين آمنوا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { سأُلْقِـي فِـي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ فـاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ }.

يقول تعالـى ذكره: سأرعب قلوب الذين كفروا بـي أيها الـمؤمنون منكم، وأملؤها فَرَقا حتـى ينهزموا عنكم، فـاضربوا فوق الأعناق

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: { فَوْقَ الأعْناقِ } فقال بعضهم: معناه: فـاضربوا الأعناق. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبـيه، عن عطية: { فـاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ } قال: اضربوا الأعناق.

قال: ثنا أبـي، عن الـمسعودي، عن القاسم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّـي لَـمْ أُبْعَثْ لاِعَذّبَ بِعَذَابِ اللّهِ، إنَّـما بُعِثْتُ لِضَرْبِ الأعْناقِ وَشَدّ الوثاقِ" .

حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: ثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { فـاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ } يقول: اضربوا الرقاب.

واحتـجّ قائلو هذه الـمقالة بأن العرب تقول: رأيت نفس فلان، بـمعنى رأيته، قالوا: فكذلك قوله: { فـاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ } إنـما معناه: فـاضربوا الأعناق.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فـاضربوا الرءوس. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: وحدثنا الـحسين، عن يزيد، عن عكرمة: { فـاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ } قال: الرءوس.

واعتلّ قائلو هذه الـمقالة بأن الذي فوق الأعناق: الرءوس، وقالوا: وغير جائز أن تقول: فوق الأعناق، فـيكون معناه: الأعناق. قالوا: ولو جاز كان أن يقال تـحت الأعناق، فـيكون معناه: الأعناق. قالوا: وذلك خلاف الـمعقول من الـخطاب، وقلب معانـي الكلام.

وقال آخرون: معنى ذلك: فـاضربوا علـى الأعناق. وقالوا: «علـى» و «فوق» معناهما متقاربـان، فجاز أن يوضع أحدهما مكان الآخر.

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله أمر الـمؤمنـين معلـمهم كيفـية قتل الـمشركين وضربهم بـالسيف أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل وقوله: { فَوْقَ الأعْناقِ } مـحتـمل أن يكون مراداً به الرءوس، ومـحتـمل أن يكون مرادا به فوق جلدة الأعناق، فـيكون معناه: علـى الأعناق وإذا احتـمل ذلك صحّ قول من قال: معناه: الأعناق. وإذا كان الأمر مـحتـملاً ما ذكرنا من التأويـل، لـم يكن لنا أن نوجهه إلـى بعض معانـيه دون بعض إلاَّ بحجة يجب التسلـيـم لها، ولا حجة تدلّ علـى خصوصه، فـالواجب أن يقال: إن الله أمر بضرب رءوس الـمشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم أصحاب نبـيه صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدراً.

وأما قوله: { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ } فإن معناه: واضربوا أيها الـمؤمنون من عدوّكم كلّ طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم. والبنان: جمع بنانة، وهي أطراف أصابع الـيدين والرجلـين، ومن ذلك قول الشاعر:

ألا لَـيْتَنِـي قَطَّعْتُ مِنِّـي بَنانَةًوَلاقَـيْتُهُ فِـي البَـيْتِ يَقْظانَ حاذِرَا

يعنـي بـالبنانة: واحدة البنان.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبـيه، عن عطية: { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ } قال: كلّ مفصل.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبـيه، عن عطية: { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ } قال: الـمفـاصل.

قال: ثنا الـمـحاربـي، عن جويبر، عن الضحاك: { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ } قال: كلّ مفصل.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الـحسن، عن يزيد، عن عكرمة: { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ } قال: الأطراف، ويقال: كلّ مفصل.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس: { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ } يعنـي بـالبنان: الأطراف.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ } قال: الأطراف.

حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: ثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ } يعنـي الأطراف.