التفاسير

< >
عرض

قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ
١٤
وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ
١٥
بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
١٦
وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
١٧
إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ
١٨
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ
١٩
-الأعلى

جامع البيان في تفسير القرآن

.

يقول تعالى ذكره: قد نجح وأدرك طلبته من تطهَّر من الكفر ومعاصي الله، وعمل بما أمره الله به، فأدّى فرائضه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: { قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } يقول: من تَزَكَّى من الشرك.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: ثنا هشام، عن الحسن، في قوله { قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } قال: من كان عمله زاكياً.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة { قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } قال: يعمل وَرِعاً.

حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حفص بن عُمر العَدَنيّ، عن الحكم، عن عكرِمة، في قوله: { قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } من قال: لا إله إلاَّ الله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: قد أفلح من أدّى زكاة ماله. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عليّ بن الأقمر، عن أبي الأحوص { قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } قال: من استطاع أن يرضَخَ فليفعل، ثم ليقم فليصلّ.

حدثنا محمد بن عمارة الرازي، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عليّ بن الأقمر، عن أبي الأحوص { قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } قال: من رَضَخ.

حدثنا محمد بن عمارة، قال: ثنا عثمان بن سعيد بن مرّة، قال: ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة، فليقدّم بين يدي صلاته زكاته، فإن الله يقول: { قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } فمن استطاع أن يقدّم بين يدي صلاته زكاةً فليفعل.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } تزكى رجل من ماله، وأرضى خالقه.

وقال آخرون: بل عنى بذلك زكاة الفطر. ذكر من قال ذلك:

حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن أبي خلدة، قال: دخلت على أبي العالية، فقال لي: إذا غَدَوت غداً إلى العيد فمرّ بي، قال: فمررت به، فقال: هل طَعِمت شيئاً؟ قلت: نعم، قال: أَفَضْت على نفسك من الماء؟ قلت: نعم، قال: فأخبرني ما فعلت بزكاتك؟ قلت: قد وجَّهتها، قال: إنما أردتك لهذا، ثم قرأ: { قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وقال: إن أهل المدينة لا يَرَون صدقة أفضل منها، ومن سِقاية الماء.

وقوله: { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } فقال بعضهم: معنى ذلك: وحَّد الله. ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } يقول: وحَّد الله سبحانه وتعالى.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وذكر الله ودعاه ورغب إليه.

والصواب من القول في ذلك: أن يقال: وذكر الله فوحّده، ودعاه ورغب إليه، لأن كلّ ذلك من ذكر الله، ولم يخصُصِ الله تعالى من ذكره نوعاً دون نوع.

وقوله: { فَصَلَّى } اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: عُنِي به: فصّلى الصلوات الخمس. ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: { فَصَلَّى } يقول: صَّلى الصلوات الخمس.

وقال آخرون: عني به: صلاة العيد يوم الفطر.

وقال آخرون: بل عُني به: وذكر اسم ربه فدعا وقالوا: الصلاة هاهنا: الدعاء.

والصواب من القول أن يقال: عُنِي بقوله: { فَصَلَّى }: الصلوات، وذكر الله فيها بالتحميد والتمجيد والدعاء.

وقوله: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنيْا } يقول للناس: بل تؤثرون أيها الناس زينة الحياة الدنيا على الآخرة { والآخِرَةُ خَيْرٌ لَكُمْ وأبْقَى } يقول: وزينة الآخرة خير لكم أيها الناس وأبقى، لأن الحياة الدنيا فانية، والآخرة باقية، لا تنفَدُ ولا تفنى. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنيْا } فاختار الناس العاجلة إلا من عصم الله. وقوله: { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ } في الخير { وأبْقَى } في البقاء.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن عَرْفَجَة الثقفيِّ، قال: استقرأت ابن مسعود { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى }، فلما بلغ: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنيْا } ترك القراءة، وأقبل على أصحابه، وقال: آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزُوِيت عنا الآخرة، فاخترنا هذا العاجل، وتركنا الآجل.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنيْا } فقرأ ذلك عامَّة قرّاء الأمصار: { بَلْ تُؤْثِرُونَ } بالتاء، إلا أبا عمرو، فإنه قرأه بالياء، وقال: يعني الأشقياء.

والذي لا أوثر عليه في قراءة ذلك التاء، لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وذُكر أن ذلك في قراءة أُبيّ: { بَلْ أنْتُمْ تُؤْثِرُونَ } فذلك أيضاً شاهد لصحة القراءة بالتاء.

وقوله: { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولى } اختلف أهل التأويل في الذي أشير إليه بقوله هذا، فقال بعضهم: أُشير به إلى الآيات التي في «سبح اسم ربك الأعلى». ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرِمة { إنَّ هَذَا لفِي الصُّحُفِ الأُولى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } يقول: الآيات التي في سبح اسم ربك الأعلى.

وقال آخرون: قصة هذه السورة. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية { إن هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } قال: قصة هذه السورة لفي الصحف الأولى.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن هذا الذي قصّ الله تعالى في هذه السورة { لَفِي الصُّحُفِ الأُولى }. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولى } قال: إن هذا الذي قصّ الله في هذه السورة، لفي الصحف الأولى { صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى }.

وقال آخرون: بل عُنِي بذلك إن قوله: { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وأبْقَى } في الصحف الأولى. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولى } قال: تتابعت كتب الله كما تسمعون، أن الآخرة خير وأبقى.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } قال: في الصحف التي أنزلها الله على إبراهيم وموسى: أن الآخرة خير من الأولى.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن قوله: { قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكى وَذَكَرَ اسمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنيْا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقَى }: لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم خليل الرحمن، وصحف موسى بن عمران.

وإنما قلت: ذلك أولى بالصحة من غيره، لأن هذا إشارة إلى حاضر، فلأن يكون إشارة إلى ما قرب منها، أولى من أن يكون إشارة إلى غيره. وأما الصحف: فإنها جمع صحيفة، وإنما عُنِي بها: كتب إبراهيم وموسى.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الخلد، قال: نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستّ ليال خلون من رمضان، وأنزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين.