. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ } فقال بعضهم معناه: فمن يكذّبك يا محمد بعد هذه الحجج التي احتججنا بها، بالدين، يعني: بطاعة الله، وما بعثك به من الحقّ، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: «ما» في معنى «مَنْ»، لأنه عُني به ابن آدم، ومن بعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما يكذّبك أيها الإنسان بعد هذه الحجج بالدين. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، قال: قلت لمجاهد: { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } عُني به النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: مَعاذ الله عُني به الإنسان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عمن سمع مجاهداً يقول: { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } قلت: يعني به: النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: مَعاذ الله إنما يعني به الإنسان.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد { فَمَا يُكذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } أَعُنِي به النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: معاذ الله إنما عُني به الإنسان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبيّ { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ }؟ إنما يعني الإنسان، يقول: خلقتك في أحسن تقويم، فما يكذّبك أيها الإنسان بعد بالدين.
وقال آخرون: إنما عُنِي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: استيقن مع ما جاءك من الله من البيان، أن الله أحكم الحاكمين. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } أي استيقِن بعد ما جاءك من الله البيانُ { ألَيْسَ اللّهَ بِأحْكَمِ الْحاكِمِينَ }؟.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معنى «ما» معنى «مَنْ». ووجه تأويل الكلام إلى: فمن يكذّبك يا محمد بعد الذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين؟ يعني: بطاعة الله، ومجازاته العباد على أعمالهم. وقد تأوّل ذلك بعض أهل العربية بمعنى: فما الذي يكذّبك بأن الناس يدانون بأعمالهم؟ وكأنه قال: فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعد ما تبين له خلقنا الإنسان على ما وصفنا.
واختلفوا في معنى قوله: { بالدّين } فقال بعضهم: بالحساب. ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الرحمن بن الأسود الطُّفَاوي، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن النضر بن عربيّ، عن عكرِمة، في قوله: { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } قال: الحساب.
وقال آخرون: معناه: بحكم الله. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } يقول: ما يكذّبك بحكم الله.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: الدين في هذا الموضع: الجزاء والحساب، وذلك أن أحد معاني الدين في كلام العرب: الجزاء والحساب ومنه قولهم: كما تدين تُدان. ولا أعرف من معاني الدين «الحكم» في كلامهم، إلا أن يكون مراداً بذلك: فما يكذّبك بعد بأمر الله الذي حكم به عليك أن تطيعه فيه؟ فيكون ذلك.
وقوله: { ألَيْسَ اللّهُ بِأحْكَمِ الْحاكمِينَ } يقول تعالى ذكره: أليس الله يا محمد بأحكم من حكم في أحكامه، وفصل قضائه بين عباده؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ذلك فيما بلغنا قال: بَلى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { ألَيْسَ اللّهَ بِأحْكَمِ الْحاكِمِينَ } ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: «بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين».
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، قال: كان ابن عباس إذا قرأ: { ألَيْسَ اللّهُ بِأحْكَمِ الْحاكِمينَ } قال: سبحانك اللهمّ، وَبلى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: كان قتادة إذا تلا: { ألَيْسَ اللّهُ بِأحْكَمِ الْحاكِمينَ؟ } قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، أحسبه كان يرفع ذلك وإذا قرأ:
{ { ألَيْسَ ذَلَك بِقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيِيَ المَوْتَى } ؟ قال: بلى، وإذا تلا: { { فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } قال: آمنت بالله، وبما أنزل.