{ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } مفعول ثان لأنذر وهو يوم القيامة. ومعنى { أَخّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك. أو أريد باليوم: يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدّة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب، كقوله:
{ { لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } [المنافقون: 10] { أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ } على إرادة القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بطرا وأشراً، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأمّلوا بعيداً و { مَا لَكُمْ } جواب القسم، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله { أَقْسَمْتُمْ } ولو حكى لفظ المقسمين لقيل: ما لنا { مّن زَوَالٍ } والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء، وقيل: لا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرهم بالبعث،كقوله: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ } [النحل: 38] يقال: سكن الدار وسكن فيها. ومنه قوله تعالى: { وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } لأنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث، والأصل تعدّيه بفي، كقولك: قرّ في الدار وغنى فيها وأقام فيها، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل: سكن الدار كما قيل: تبوأها وأوطنها. ويجوز أن يكون: سكنوا من السكون، أي: قرّوا فيها واطمأنوا طيبي النفوس، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد، لا يحدّثونها بما لقي الأوّلون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم، فيعتبروا ويرتدعوا { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ } بالإخبار والمشاهدة { كَيْفَ } أهلكناهم وانتقمنا منهم. وقرىء: «ونبين لكم»، بالنون { وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأمْثَالَ } أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } لا يخلو إمّا أن يكون مضافاً إلى الفاعل كالأوّل، على معنى: ومكتوب عند الله مكرهم، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه، أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى: { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } الذي يمكرهم به، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته، أي: وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال، معداً لذلك، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها، كقوله تعالى: { { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ } [البقرة: 143] والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أنّ الجبال مثل لآيات الله وشرائعه، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً. وتنصره قراءة ابن مسعود: «وما كان مكرهم». وقرىء: «لتزول»، بلام الابتداء، على: { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } من الشدّة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها. وقرأ علي وعمر رضي الله عنهما: «وإن كاد مكرهم» { مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } يعني قوله: { { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [غافر: 51]، { { كَتَبَ ٱللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [المجادلة: 21]، فإن قلت: هلا قيل: مخلف رسله وعده؟ ولم قدم المعفول الثاني على الأول؟ قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً، كقوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } [آل عمران: 9] ثم قال: { رُسُلَهُ } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً - وليس من شأنه إخلاف المواعيد - كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ وقرىء: «مخلف وعدَه رسلهِ»، بحرّ الرسل ونصب الوعد. وهذه في الضعف كمن قرأ { قَتْلَ أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَائِهِمْ } [الأنعام: 137]. { ٱلْعَزِيزِ } غالب لا يماكر { ذُو ٱنتِقَامٍ } لأوليائه من أعدائه.