{قَبْلَهُمْ} قبل أهل مكة {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } يعني نوحاً. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {فَكَذَّبُواْ } بعد قوله: {كَذَّبَتْ }؟ قلت: معناه: كذبوا فكذبوا عبدنا أي: كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب. أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا، أي: لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوّة رأساً، كذبوا نوحًا؛ لأنه من جملة الرسل {مَّجْنُونٍ } هو مجنون {وَٱزْدُجِرَ } وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم
{ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُرْجُومِينَ } [الشعراء: 116] وقيل: هو من جملة قيلهم، أي: قالوا هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه وطارت بقلبه. قرىء: «أني» بمعنى: فدعا بأني مغلوب، وإني: على إرادة القول، فدعا فقال: إني مغلوب غلبني قومي، فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي {فَٱنتَصِرْ } فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمروبلغ السيل الزُّبا، فقد روى: أنّ الواحد من أمّته كان يلقاه فيخنقه حتى يخرّ مغشياً عليه. فيفيق وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وقرىء: «ففتحنا» مخففاً ومشدّداً، وكذلك وفجرنا {مُّنْهَمِرٍ } منصبّ في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً {وَفَجَّرْنَا ٱلاْرْضَ عُيُوناً } وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض ونظيره في النظم { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } } [مريم: 4]. {فَالْتَقَى ٱلمَاءُ } يعني مياه السماء والأرض. وقرىء: «الماآن»، أي: النوعان من الماء السماوي والأرضي. ونحوه قولك: عندي تمران، تريد: ضربان من التمر: برني ومعقلي. قال:لَنَا إبْلاَنِ فِيهِمَا مَا علمْتُمُ
وقرأ الحسن «الماوان»، بقلب الهمزة واواً، كقولهم: علباوان {عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } على حال قدرها الله كيف شاء. وقيل: على حال جاءت مقدّرة مستوية: وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء. وقيل: على أمر قد قدر في اللوح أنه يكون، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان {عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوٰحٍ وَدُسُرٍ } أراد السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتودي مؤداها. بحيث لا يفصل بينها وبينها. ونحوه:......... وَلَـكِنْ قمِيصِي مَسْرُودَةٌ مِنْ حَدِيدِ
أراد: ولكن قميصي درع، وكذلك:وَلَوْ فِي عُيُونِ النَّازِيَاتِ بِأَكْرُعِ
أراد: ولو في عيون الجراد. ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة، أو بين الدرع والجراد وهاتين الصفتين: لم يصح، وهذا من فصيح الكلام وبديعه. والدسر: جمع دسار: وهو المسمار، فعال من دسره إذا دفعه؛ لأنه يدسر به منفذه {جَزآءً } مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده، أي فعلنا ذلك جزاء، {لّمَن كَانَ كُفِرَ } وهو نوح عليه السلام، وجعله مكفوراً لأنّ النبي نعمة من الله ورحمة. قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } } [الأنبياء: 107] فكان نوح عليه السلام نعمة مكفورة، ومن هذا المعنى ما يحكى أنّ رجلاً قال للرشيد: الحمد لله عليك، فقال: ما معنى هذا الكلام؟ قال: أنت نعمة حمدت الله عليها. ويجوز أن يكون على تقدير حذف الجار وإيصال الفعل. وقرأ قتادة «كفر» أي جزاء للكافرين. وقرأ الحسن «جزاء»، بالكسر: أي مجازاة. الضمير في {تَّرَكْنَـٰهَا } للسفينة. أو للفعلة، أي: جعلناها آية يعتبر بها. وعن قتادة: أبقاها الله بأرض الجزيرة. وقيل: على الجودى دهراً طويلاً، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة. والمدّكر: المعتبر. وقرىء: «مذتكر» على الأصل. ومذكر، بقلب التاء ذالاً وإدغام الذال فيها. وهذا نحو: مذجر. والنذر: جمع نذير وهو الإنذار {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءانَ لِلذّكْرِ } أي سهلناه للادكار والاتعاظ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد {فَهَلْ مِن } متعظ. وقيل: ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه. ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر، من يسر ناقته للسفر: إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو، إذا أسرجه فألجمه. قال:وَقمت إِلَيْهِ بِاللِّجَامِ مُيَسِّراً هُنَالِكَ يَجْزِيني الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ
ويروى: أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظراً ولا يحفظونها ظاهراً كما القرآن.