{ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ(8) } يبصر بهما المرئيات { وَلِسَاناً } يترجم به عن ضمائره { وَشَفَتَيْنِ } يطبقهما على فيه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك { وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ } أي: طريقي الخير والشر. وقيل: الثديين { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } يعني: فلم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال الصالحة: من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين، ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة، وأساس كل خير؛ بل غمط النعم وكفر بالمنعم. والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضي النافع عند الله، لا أن يهلك مالاً لبداً في الرياء والفخار، فيكون مثله
{ كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ... } [آل عمران: 117] الآية. فإن قلت: قلما تقع «لا» الداخلة على الماضي إلاّ مكرره، ونحو قوله:فَأَيُّ أَمْرٍ سَيِّىءٍ لاَ فَعَلَه
لا يكاد يقع، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟ قلت: هي متكرّرة في المعنى؛ لأن معنى { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ (11) } فلا فكّ رقبة، ولا أطعم مسكيناً. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك. وقال الزجاج قوله: (ثم كان من الذين أمنوا) يدل على معنى: { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ (11) }، ولا آمن. والاقتحام: الدخول والمجاوزة بشدّة ومشقة. والقحمة: الشدة، وجعل الصالحة: عقبة، وعملها: اقتحاماً لها، لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. وعن الحسن: عقبة والله شديدة. مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدّوه الشيطان. وفكّ الرقبة: تخليصها من رق أو غيره. وفي الحديث: (1303) أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال:
"تعتق النسمة وتفك الرقبة" . قال: أو ليسا سواء؟ قال: " لا، إعتاقها أن تنفرد بعتقها. وفكها: أن تعين في تخليصها. من قود أو غرم" . والعتق والصدقة: من أفاضل الأعمال. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن العتق أفضل من الصدقة.وعند صاحبيه:الصدقة أفضل والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقديم العتق الصدقة وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذي قرابة، أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (1304)
"من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضواً منه من النار" . قرىء: «فك رقبة أو إطعام» على: هي فك رقبة، أو إطعام. وقرىء: «فك رقبة» أو أطعم، على الإبدال من اقتحم العقبة. وقوله: { وَمآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ (12) } اعتراض، ومعناه: أنك لم تدرِكُنْهَ صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله. والمسغبة، والمقربة، والمتربة: مفعلات من سغب: إذا جاع. وقرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي. وذو مقربتي. وترب: إذا افتقر، ومعناه. التصق بالتراب. وأما أترب فاستغنى، أي: صار ذا مال كالتراب في الكثرة، كما قيل: أثري. (1305) وعن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { ذَا مَتْرَبَةٍ } الذي مأواه المزابل، ووصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويون في قولهم: هم ناصب: ذو نصب. وقرأ الحسن: «ذا مسغبة» نصبه بإطعام. ومعناه: أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة.