التفاسير

< >
عرض

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ
٥٣
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي ٱلأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٥٤
-يونس

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه سبحانه أخبر عن الكفار بقوله: { { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } [يونس:48].

وأجاب عنه بما تقدم فحكى عنهم أنهم رجعوا إلى الرسول مرة أخرى في عين هذه الواقعة وسألوه عن ذلك السؤال مرة أخرى وقالوا: أحق هو واعلم أن هذا السؤال جهل محض من وجوه: أولها: أنه قد تقدم هذا السؤال مع الجواب فلا يكون في الإعادة فائدة. وثانيها: أنه تقدم ذكر الدلالة العقلية على كون محمد رسولاً من عند الله، وهو بيان كون القرآن معجزاً، وإذا صحت نبوته لزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه، فهذه المعاني توجب الإعراض عنهم، وترك الالتفات إلى سؤالهم، واختلفوا في الضمير في قوله: { أَحَقٌّ هُوَ } قيل: أحق ما جئتنا به من القرآن والنبوة والشرائع. وقيل: ما تعدنا من البعث والقيامة. وقيل: ما تعدنا من نزول العذاب علينا في الدنيا.

ثم إنه تعالى أمره أن يجيبهم بقوله: { قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ } والفائدة فيه أمور: أحدها: أن يستمليهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء، وأكده بالقسم فقد أخرجه عن الهزل وأدخله في باب الجد. وثانيها: أن الناس طبقات فمنهم من لا يقر بالشيء إلا بالبرهان الحقيقي، ومنهم من لا ينتفع بالبرهان الحقيقي، بل ينتفع بالأشياء الإقناعية، نحو القسم فإن الأعرابي الذي جاء الرسول عليه السلام، وسأل عن نبوته ورسالته اكتفى في تحقيق تلك الدعوى بالقسم، فكذا ههنا.

ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } ولا بد فيه من تقدير محذوف، فيكون المراد وما أنتم بمعجزين لمن وعدكم بالعذاب أن ينزله عليكم والغرض منه التنبيه على أن أحداً لا يجوز أن يمانع ربه ويدافعه عما أراد وقضى، ثم إنه تعالى بين أن هذا الجنس من الكلمات، إنما يجوز عليهم ما داموا في الدنيا فأما إذا حضروا محفل القيامة وعاينوا قهر الله تعالى، وآثار عظمته تركوا ذلك واشتغلوا بأشياء أخرى، ثم إنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء: أولها: قوله: { وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى ٱلاْرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ } إلا أن ذلك متعذر لأنه في محفل القيامة لا يملك شيئاً كما قال تعالى: { { وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَرْداً } [مريم: 95] وبتقدير: أن يملك خزائن الأرض لا ينفعه الفداء لقوله تعالى: { { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة: 48] وقال في صفة هذا اليوم { { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَـٰعَةٌ } [البقرة: 254] وثانيها: قوله: { { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } .

واعلم أن قوله: { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ } جاء على لفظ الماضي، والقيامة من الأمور المستقبلة إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع، جعل الله مستقبلها كالماضي، واعلم أن الإسرار هو الإخفاء والإظهار وهو من الأضداد، أما ورود هذه اللفظة بمعنى الإخفاء فظاهر وأما ورودها بمعنى الإظهار فهو من قولهم سر الشيء وأسره إذا أظهره.

إذا عرفت هذا فنقول: من الناس من قال: المراد منه إخفاء تلك الندامة، والسبب في هذا الإخفاء وجوه: الأول: أنهم لما رأوا العذاب الشديد صاروا مبهوتين متحيرين، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً سوى إسرار الندم كالحال فيمن يذهب به ليصلب فإنه يبقى مبهوتاً متحيراً لا ينطق بكلمة. الثاني: أنهم أسروا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم.

فإن قيل: إن مهابة ذلك الموقف تمنع الإنسان عن هذا التدبير فكيف قدموا عليه.

قلنا: إن هذا الكتمان إنما يحصل قبل الاحتراق بالنار، فإذا احترقوا تركوا هذا الإخفاء وأظهروه بدليل قوله تعالى: { { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } [المؤمنون: 106] الثالث: أنهم أسروا تلك الندامة لأنهم اخلصوا لله في تلك الندامة، ومن أخلص في الدعاء أسره، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم يعني أنهم لما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته ولم ينفعهم، بل كان من الواجب عليهم أن يأتوا به في دار الدنيا وقت التكليف، وأما من فسر الإسرار بالإظهار فقوله: ظاهر لأنهم إنما أخفوا الندامة على الكفر والفسق في الدنيا لأجل حفظ الرياسة، وفي القيامة بطل هذا الغرض فوجب الإظهار. وثالثها: قوله تعالى: { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } فقيل بين المؤمنين والكافرين، وقيل بين الرؤساء والأتباع، وقيل بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم.

واعلم أن الكفار وإن اشتركوا في العذاب فإنه لا بد وأن يقضي الله تعالى بينهم لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضاً في الدنيا وخانه، فيكون في ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم، وتثقيل لعذاب الباقين، لأن العدل يقتضي أن ينتصف للمظلومين من الظالمين، ولا سبيل إليه إلا بأن يخفف من عذاب المظلومين ويثقل في عذاب الظالمين.