التفاسير

< >
عرض

فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ
٩٤
وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٩٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
٩٦
وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٩٧
-يونس

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل اختلافهم عند ما جاءهم العلم أورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ما يقوي قلبه في صحة القرآن والنبوة، فقال تعالى: { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال الواحدي الشك في وضع اللغة، ضم بعض الشيء إلى بعض، يقال: شك الجواهر في العقد إذا ضم بعضها إلى بعض. ويقال شككت الصيد إذا رميته فضممت يده أو رجله إلى رجله والشكائك من الهوادج ما شك بعضها ببعض والشكاك البيوت المصطفة والشكائك الأدعياء، لأنهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم، أي يضمون، وشك الرجل في السلاح، إذا دخل فيه وضمه إلى نفسه وألزمه إياها، فإذا قالوا: شك فلان في الأمور أرادوا أنه وقف نفسه بين شيئين، فيجوز هذا، ويجوز هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه.

المسألة الثانية: اختلف المفسرون: في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو؟ فقيل النبي عليه الصلاة والسلام. وقيل غيره، أما من قال بالأول: فاختلفوا على وجوه.

الوجه الأول: أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر، والمراد غيره كقوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ } [الأحزاب: 1] وكقوله: { { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65] وكقوله: { { يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [المائدة: 116] ومن الأمثلة المشهورة: إياك أعني واسمعي يا جاره.

والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه: الأول: قوله تعالى في آخر السورة { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى } [يونس: 104] فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني: أن الرسول لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية. والثالث: أن بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار، وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل، فالكل مصحف محرف، فثبت أن الحق هو أن الخطاب، وإن كان في الظاهر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد هو الأمة، ومثل هذا معتاد، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص، فإنه لا يوجه خطابه عليهم، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم.

الوجه الثاني: أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام، فإنه يصرح ويقول: " يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة " ونظيره قوله تعالى للملائكة: { { أَهَـؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [سبأ: 40] والمقصود أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا: { { سُبْحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } [سبأ: 41] وكما قال لعيسى عليه السلام: { { أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [المائدة: 116] والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا.

الوجه الثالث: هو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان من البشر، وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس، ونظيره قوله تعالى: { { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } [هود: 12] وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله: { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ } فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع. ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط، والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين، فهو كلام حق، لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية، تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع، فليس في الآية دلالة عليه، والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر، ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة.

والوجه الرابع: في تقرير هذا المعنى أن تقول: المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات، وذلك الاستحياء صار مانعاً لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى: { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ } من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل، يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلاً على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب ولا يحصل بسببه نقصان، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات.

الوجه الخامس: أن يكون التقدير أنك لست شاكاً ألبتة ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى: { { لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22] والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً، لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا. ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة.

الوجه السادس: قال الزجاج: إن الله خاطب الرسول في قوله: { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ } وهو شامل للخلق وهو كقوله: { { يأيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء } [الطلاق: 1] قال: وهذا أحسن الأقاويل، قال القاضي: هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلاً تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال، سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر، ثم قال: ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل.

الوجه السابع: هو أن لفظ { إن } في قوله: { إِن كُنتَ فِى شَكّ } للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقيناً.

وأما الوجه الثاني: وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة، المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع، كما في قوله: { { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ٱلْكَرِيمِ * ٱلَّذِى خَلَقَكَ } [الانفطار: 6، 7] و { { يأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ } [الانشقاق: 6] وقوله: { { فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ضُرٌّ } [الزمر: 49] ولم يرد في جميع هذه الآيات إنساناً بعينه، بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال: { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ }.

المسألة الثالثة: اختلفوا في أن المسؤول منه في قوله: { فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يقرؤن ٱلْكِتَـٰبِ } من هم؟ فقال المحققون هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبدالله بن سلام، وعبدالله بن صوريا، وتميم الداري، وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم، ومنهم من قال: الكل سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار، لأنهم إذا بلغوا عدد التواتر ثم قرؤا آية من التوراة والإنجيل، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرض.

فإن قيل: إذا كان مذهبكم أن هذه الكتب قد دخلها التحريف والتغيير، فكيف يمكن التعويل عليها.

قلنا: إنهم إنما حرفوها بسبب إخفاء الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته كان ذلك من أقوى الدلائل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، لأنها لما بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دل ذلك على أنها كانت في غاية الظهور، وأما أن المقصود من ذلك السؤال معرفة أي الأشياء، ففيه قولان: الأول: أنه القرآن ومعرفة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه رجع ذلك إلى قوله تعالى: { { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ } [يونس: 93] والأول أولى، لأنه هو الأهم والحاجة إلى معرفته أتم. واعلم أنه تعالى لما بين هذا الطريق قال بعده: { لَقَدْ جَاءكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ } أي فأثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك، وانتفاء التكذيب بآيات الله، ويجوز أن يكون ذلك على طريق التهييج وإظهار التشدد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام عند نزوله " لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق " .

ثم قال: { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ فتكون مّنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ }.

واعلم أن فرق المكلفين ثلاثة، إما أن يكون من المصدقين بالرسول، أو من المتوقفين في صدقه، أو من المكذبين، ولا شك أن أمر المتوقف أسهل من أمر المكذب، لا جرم قد ذكر المتوقف بقوله: { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } ثم أتبعه بذكر المكذب، وبين أنه من الخاسرين، ثم إنه تعالى لما فصل هذا التفصيل، بين أن له عباداً قضى عليهم بالشقاء فلا يتغيرون وعباداً قضى لهم بالكرامة، فلا يتغيرون، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر: { كلمات } على الجمع، وقرأ الباقون: { كلمة } على لفظ الواحد، وأقول إنها كلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة واحدة بحسب الواحدة الجنسية.

المسألة الثانية: المراد من هذه الكلمة حكم الله بذلك وإخباره عنه، وخلقه في العبد مجموع القدرة والداعية، الذي هو موجب لحصول ذلك الأثر، أما الحكم والأخبار والعلم فظاهر، وأما مجموع القدرة والداعي فظاهر أيضاً، لأن القدرة لما كانت صالحة للطرفين لم يترجح أحد الجانبين على الآخر إلا لمرجح، وذلك المرجح من الله تعالى قطعاً للتسلسل، وعند حصول هذا المجموع يجب الفعل، وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب وهو حق وصدق ولا محيص عنه.

ثم قال تعالى: { وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاْلِيمَ } والمراد أنهم لا يؤمنون ألبتة، ولو جاءتهم الدلائل التي لا حد لها ولا حصر، وذلك لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى فإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل.