التفاسير

< >
عرض

وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
٣٨
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٣٩
-هود

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

أما قوله تعالى: { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ } ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: في قوله: { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ } قولان: الأول: أنه حكاية حال ماضية أي في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. الثاني: التقدير وأقبل يصنع الفلك فاقتصر على قوله: { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ }.

المسألة الثانية: ذكروا في صفة السفينة أقوالاً كثيرة: فأحدها: أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وقيل في أربع سنين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاث بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وفي البطن الأعلى جلس هو ومن كان معه مع ما احتاجوا إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام، وثانيها: قال الحسن كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع.

واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها ألبتة ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلاً وكان الخوض فيها من باب الفضول لا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجانب الصحيح والذي نعلمه إنه كان في السعة بحيث يتسع للمؤمنين من قومه ولما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان، لأن هذا القدر مذكور في القرآن، فأما غير ذلك القدر فغير مذكور.

أما قوله تعالى: { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } ففي تفسير الملأ وجهان قيل جماعة وقيل طبقة من أشرافهم وكبرائهم واختلفوا فيما لأجله كانوا يسخرون وفيه وجوه أحدهما: أنهم كانوا يقولون: يا نوح كنت تدعي رسالة الله تعالى فصرت بعد ذلك نجاراً. وثانيها: أنهم كانوا يقولون له: لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق. وثالثها: أنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها وكانوا يتعجبون منه ويسخرون. ورابعها: أن تلك السفينة كانت كبيرة وهو كان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جداً وكانوا يقولون: ليس ههنا ماء ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار، فكانوا يعدون ذلك من باب السفه والجنون. وخامسها: أنه لما طالت مدته مع القوم وكان ينذرهم بالغرق وما شاهدوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كونه كاذباً في ذلك المقال فلما اشتغل بعمل السفينة لا جرم سخروا منه وكل هذه الوجوه محتملة.

ثم إنه تعالى حكى عنه أنه كان يقول: { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } وفيه وجوه: الأول: التقدير إن تسخروا منا في هذه الساعة فإنا نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والخزي في الآخرة. الثاني: إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله تعالى وعذابه فأنتم أولى بالسخرية منا. الثالث: أن تستجهلونا فإنا نستجهلكم واستجهالكم أقبح وأشد، لأنكم لا تستجهلون إلا لأجل الجهل بحقيقة الأمر والاغترار بظاهر الحال كما هو عادة الأطفال والجهال.

فإن قيل: السخرية من آثار المعاصي فكيف يليق ذلك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

قلنا: إنه تعالى سمى المقابلة سخرية كما في قوله تعالى: { { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [الشورى: 40].

أما قوله تعالى: { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة، وفي قوله: { مَن يَأْتِيهِ } وجهان: أحدهما: أن يكون استفهاماً بمعنى أي كأنه قيل: فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب،وعلى هذا الوجه فمحل «من» رفع بالابتداء. والثاني: أن يكون بمعنى الذي ويكون في محل النصب، وقوله تعالى: { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي يجب عليه وينزل به.