التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
٥٨
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
٥٩
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
٦٠
-هود

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن قوله: { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي عذابنا وذلك هو ما نزل بهم من الريح العقيم عذبهم الله بها سبع ليال وثمانية أيام، تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية.

فإن قيل: فهذه الريح كيف تؤثر في إهلاكهم؟

قلنا: يحتمل أن يكون ذلك لشدة حرها أو لشدة بردها أو لشده قوتها، فتخطف الحيوان من الأرض، ثم تضربه على الأرض، فكل ذلك محمل.

وأما قوله: { نَجَّيْنَا هُودًا } فاعلم أنه يجوز إتيان البلية على المؤمن وعلى الكافر معاً، وحينئذ تكون تلك البلية رحمة على المؤمن وعذاباً على الكافر، فأما العذاب النازل بمن يكذب الأنبياء عليهم السلام فإنه يجب في حكمة الله تعالى أن ينجي المؤمن منه، ولولا ذلك لما عرف كونه عذاباً على كفرهم، فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا: { نَجَّيْنَا هُودًا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ }.

وأما قوله: { بِرَحْمَةٍ مّنَّا } ففيه وجوه: الأول: أراد أنه لا ينجو أحد وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلا برحمة من الله، والثاني: المراد من الرحمة: ما هداهم إليه من الإيمان بالله والعمل الصالح. الثالث: أنه رحمهم في ذلك الوقت، وميزهم عن الكافرين في العقاب.

وأما قوله: { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } فالمراد من النجاة الأولى هي النجاة من عذاب الدنيا، والنجاة الثانية من عذاب القيامة، وإنما وصفه بكونه غليظاً تنبيهاً على أن العذاب الذي حصل لهم بعد موتهم بالنسبة إلى العذاب الذي وقعوا فيه كان عذاباً غليظاً، والمراد من قوله تعالى: { وَنَجَّيْنَاهُمْ } أي حكمنا بأنهم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ ولا يقعون فيه.

واعلم أنه تعالى لما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: { عَادٌ جَحَدُواْ } فهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم، كأنه تعالى قال: سيروا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا. ثم إنه تعالى جمع أوصافهم ثم ذكر عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة، فأما أوصافهم فهي ثلاثة.

الصفة الأولى: قوله: { جَحَدُواْ بِآيَـٰتِ رَبّهِمْ } والمراد: جحدوا دلالة المعجزات على الصدق، أو الجحد، ودلالة المحدثات على وجود الصانع الحكيم، إن ثبت أنهم كانوا زنادقة.

الصفة الثانية: قوله: { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } والسبب فيه أنهم إذا عصوا رسولاً واحداً، فقد عصوا جميع الرسل لقوله تعالى: { { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } [البقرة: 285] وقيل: لم يرسل إليهم إلا هود عليه السلام.

الصفة الثالثة: قوله: { وَٱتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } والمعنى أن السفلة كانوا يقلدون الرؤساء في قولهم: { { مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } [المؤمنون: 24] والمراد من الجبار المرتفع المتمرد العنيد العنود والمعاند، وهو المنازع المعارض.

واعلم أنه تعالى لما ذكر أوصافهم ذكر بعد ذلك أحوالهم فقال: { وَأُتْبِعُواْ فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } أي جعل اللعن رديفاً لهم، ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا وفي الآخرة، ومعنى اللعنة الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير.

ثم إنه تعالى بين السبب الأصلي في نزول هذه الأحوال المكروهة بهم فقال: { أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } قيل: أراد كفروا بربهم فحذف الباء، وقيل: الكفر هو الجحد فالتقدير: ألا إن عاداً جحدوا ربهم. وقيل: هو من باب حذف المضاف، أي كفروا نعمة ربهم.

ثم قال: { أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } وفيه سؤالان:

السؤال الأول: اللعن هو البعد، فلما قال: { وَأُتْبِعُواْ فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } فما الفائدة في قوله: { أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ }.

والجواب: التكرير بعبارتين مختلفتين يدل على غاية التأكيد.

السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله: { لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ }.

الجواب: كان عاد عادين، فالأولى: القديمة هم قوم هود، والثانية: هم إرم ذات العماد، فذكر ذلك لإزالة الاشتباه. والثاني: أن المبالغة في التنصيص تدل على مزيد التأكيد.