التفاسير

< >
عرض

ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ
٩
قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
١٠
-يوسف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

واعلم أنه لما قوي الحسد وبلغ النهاية قالوا لا بد من تبعيد يوسف عن أبيه: وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه ولا وجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك، ثم ذكروا العلة فيه وهي قولهم: { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } والمعنى أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَـٰلِحِينَ } وفيه وجوه: الأول: أنهم علموا أن ذلك الذي عزموا عليه من الكبائر فقالوا: إذا فعلنا ذلك تبنا إلى الله ونصير من القوم الصالحين. والثاني: أنه ليس المقصود ههنا صلاح الدين بل المعنى يصلح شأنكم عند أبيكم ويصير أبوكم محباً لكم مشتغلاً بشأنكم. الثالث: المراد أنكم بسبب هذه الوحشة صرتم مشوشين لا تتفرغون لإصلاح مهم، فإذا زالت هذه الوحشة تفرغتم لإصلاح مهماتكم، واختلفوا في أن هذا القائل الذي أمر بالقتل من كان؟ على قولين: أحدهما: أن بعض إخوته قال هذا. والثاني: أنهم شاوروا أجنبياً فأشار عليهم بقتله، ولم يقل ذلك أحد من إخوته، فأما من قال بالأول فقد اختلفوا فقال وهب: إنه شمعون، وقال مقاتل: روبيل.

فإن قيل: كيف يليق هذا بهم وهم أنبياء؟

قلنا: من الناس من أجاب عنه بأنهم كانوا في هذا الوقت مراهقين وما كانوا بالغين، وهذا ضعيف، لأنه يبعد من مثل نبي الله تعالى يعقوب عليه السلام أن يبعث جماعة من الصبيان من غير أن يكون معهم إنسان عاقل يمنعهم من القبائح. وأيضاً أنهم قالوا: { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَـٰلِحِينَ } وهدا يدل على أنهم قبل التوبة لا يكونون صالحين، وذلك ينافي كونهم من الصبيان، ومنهم من أجاب بأن هذا من باب الصغائر، وهذا أيضاً بعيد لأن إيذاء الأب الذي هو نبي معصوم، والكذب معه والسعي في إهلاك الأخ الصغير كل واحد من ذلك من أمهات الكبائر، بل الجواب الصحيح أن يقال: إنهم ما كانوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء إلا أن هذه الواقعة إنما أقدموا عليها قبل النبوة.

ثم إنه تعالى حكى أن قائلاً قال: { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } قيل إنه كان روبيل وكان ابن خالة يوسف وكان أحسنهم رأياً فيه فمنعهم عن القتل، وقيل يهودا، وكان أقدمهم في الرأي والفضل والسن.

ثم قال: { وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ ٱلْجُبّ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع { فِى غَيَابَةِ ٱلْجُبّ } على الجمع في الحرفين، هذا والذي بعده، والباقون { غَيَابَةِ } على الواحد في الحرفين. أما وجه الغيابات فهو أن للجب أقطاراً ونواحي، فيكون فيها غيابات، ومن وحد قال: المقصود موضوع واحد من الجب يغيب فيه يوسف، فالتوحيد أخص وأدل على المعنى المطلوب. وقرأ الجحدري { فِى غَيَابَةِ ٱلْجُبّ }.

المسألة الثانية: قال أهل اللغة: الغيابة كل ما غيب شيئاً وستره، فغيابة الجب غوره، وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله. والجب البئر التي ليست بمطوية سميت جباً، لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها غير القطع من طي أو ما أشبه ذلك، وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين.

المسألة الثالثة: الألف واللام في الجب تقتضي المعهود السابق، اختلفوا في ذلك الجب فقال قتادة: هو بئر ببيت المقدس، وقال وهب: هو بأرض الأردن، وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم: { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ } وذلك لأن تلك البئر كانت معروفة وكانوا يردون عليها كثيراً، وكان يعلم أنه إذا طرح فيها يكون إلى السلامة أقرب، لأن السيارة إذا جازوا وردوها، وإذا وردوها شاهدوا ذلك الإنسان فيها، وإذا شاهدوه أخرجوه وذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك.

المسألة الرابعة: الالتقاط تناول الشيء من الطريق، ومنه: اللقطة واللقيط، وقرأ الحسن { تلتقطه } بالتاء على المعنى، لأن بعض السيارة أيضاً سيارة، والسيارة الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر. قال ابن عباس: يريد المارة وقوله: { ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَـٰعِلِينَ } فيه إشارة إلى أن الأولى أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك، وأما إن كان ولا بد فاقتصروا على هذا القدر ونظيره قوله تعالى: { { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل: 126] يعني الأولى أن لا تفعلوا ذلك.