التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٤١
وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ
٤٢
-الرعد

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما وعد رسوله بأن يريه بعض ما وعدوه أو يتوفاه قبل ذلك، بين في هذه الآية أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت. وقوله: { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } فيه أقوال:

القول الأول: المراد أنا نأتي أرض الكفرة ننقصها من أطرافها وذلك لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الكفرة قهراً وجبراً فانتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات والأمارات على أن الله تعالى ينجز وعده. ونظيره قوله تعالى: { { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ } [الأنبياء: 44] وقوله: { { سَنُرِيهِمْ ءايَـٰتِنَا فِى ٱلآفَاقِ } [فصلت: 53].

والقول الثاني: وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله: { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } المراد: موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصلحاء والأخيار، وقال الواحدي: وهذا القول، وإن احتمله اللفظ، إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول. ويمكن أن يقال هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع، وتقريره أن يقال: أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة فيجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين، ويجعلهم مقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وعلى هذا الوجه فيحسن اتصال هذا الكلام بما قبله، وقيل: { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع؟

ثم قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى: { وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } معناه: لا راد لحكمه، والمعقب هو الذي يعقبه بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب.

فإن قيل: ما محل قوله: { لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ }.

قلنا: هو جملة محلها النصب على الحال كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع.

ثم قال: { وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } قال ابن عباس: يريد سريع الانتقام يعني أن حسابه للمجازاة بالخير والشر يكون سريعاً قريباً لا يدفعه دافع.

أما قوله: { وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني أن كفار الأمم الماضية قد مكروا برسلهم وأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى، واليهود مكروا بعيسى.

ثم قال: { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعًا } قال الواحدي: معناه أن مكر جميع الماكرين له ومنه، أي هو حاصل بتخليقه وإرادته، لأنه ثبت أن الله تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد، وأيضاً فذلك المكر لا يضر إلا بإذن الله تعالى ولا يؤثر إلى بتقديره، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأمان له من مكرهم، كأنه قيل له: إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره من الممكور به أيضاً من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى وأن لا يكون الرجاء إلا من الله تعالى، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى: فلله جزاء المكر، وذلك لأنهم لما مكروا بالمؤمنين بين الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم. قال الواحدي: والأول أظهر لقولين بدليل قوله: { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } يريد أن اكساب العباد بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع، وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله تعالى. قالت المعتزلة: الآية الأولى إن دلت على قولكم فالآية الثانية وهي قوله: { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } دلت على قولنا، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة، ولو كان حدوث الفعل بخلق الله تعالى لم يكن لقدرة العبد فيه أثر، فوجب أن لا يكون للعبد كسب.

وجوابه: أن مذهبنا أن مجموع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد. ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال: { وَسَيَعْلَمْ ٱلْكَـٰفِرُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ } وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: { وَسَيَعْلَمْ ٱلْكَـٰفِرُ } على لفظ المفرد والباقون على الجمع قال صاحب «الكشاف» قرىء: (الكفار، والكافرون، والذين كفروا، والكفر) أي أهله قرأ جناح بن حبيش: (وسيعلم الكافر) من أعلمه أي سيخبر.

المسألة الثانية: المراد بالكافر الجنس كقوله تعالى: { { إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ } [العصر: 2] والمعنى: إنهم وإن كانوا جهالاً بالعواقب فسيعلمون لمن العاقبة الحميدة، وذلك كالزجر والتهديد.

والقول الثاني: وهو قول عطاء يريد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون.

والقول الثالث: وهو قول ابن عباس يريد أبا الجهل. والقول الأول هو الصواب.