التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٨
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
١٩
وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ
٢٠
-إبراهيم

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع عذابهم في الآية المتقدمة بين في هذه الآية أن أعمالهم بأسرها تصير ضائعة باطلة لا ينتفعون بشيء منها وعند هذا يظهر كمال خسرانهم لأنهم لا يجدون في القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعاً باطلاً، وذلك هو الخسران الشديد. وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: في ارتفاع قوله: { مَثَلُ ٱلَّذِينَ } وجوه: الأول: قال سيبويه: التقدير: وفيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، أو مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم، وقوله: { كَرَمَادٍ } جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم فقيل: أعمالهم كرماد. الثاني: قال الفراء: التقدير مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد فحذف المضاف اعتماداً على ذكره بعد المضاف إليه وهو قوله: { أَعْمَـٰلُهُمْ } ومثله قوله تعالى: { { ٱلَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ } [السجدة: 7] أي خلق كل شيء، وكذا قوله: { { وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } [الزمر: 60] المعنى ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة. الثالث: أن يكون التقدير صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك صفة زيد عرضه مصون، وماله مبذول. الرابع: أن تكون أعمالهم بدلاً من قوله: { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } والتقدير: مثل أعمالهم وقوله: { كَرَمَادٍ } هو الخبر. الخامس: أن يكون المثل صلة وتقديره: الذين كفروا أعمالهم.

المسألة الثانية: اعلم أن وجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال، هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ولا خبر، فكذا ههنا أن كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لم يبق من تلك الأعمال معهم خبر ولا أثر، ثم اختلفوا في المراد بهذه الأعمال على وجوه:

الوجه الأول: أن المراد منها ما عملوه من أعمال البر كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين وإطعام الجائع، وذلك لأنها تصير محبطة باطلة بسبب كفرهم، ولولا كفرهم لانتفعوا بها.

والوجه الثاني: أن المراد من تلك الأعمال عبادتهم للأصنام وما تكلفوه من كفرهم الذي ظنوه إيماناً وطريقاً إلى الخلاص، والوجه في خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالاً عليهم.

والوجه الثالث: أن المراد من هذه الأعمال كلا القسمين، لأنهم إذا رأوا الأعمال التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت، والأعمال التي ظنوها خيرات وأفنوا فيها أعمارهم قد بطلت أيضاً وصارت من أعظم الموجبات لعذابهم فلا شك أنه تعظم حسرتهم وندامتهم فلذلك قال تعالى: { ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ }.

المسألة الثالثة: قرىء الرياح في يوم عاصف جعل العصف لليوم، وهو لما فيه وهو الريح أو الرياح كقولك: يوم ماطر وليلة ساكرة، وإنما السكور لريحها قال الفراء: وإن شئت قلت في يوم ذي عصوف، وإن شئت قلت: في يوم عاصف الريح فحذف ذكر الريح لكونه مذكوراً قبل ذلك، وقرىء في يوم عاصف بالإضافة.

المسألة الرابعة: قوله: { لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَىْء } أي لا يقدرون مما كسبوا على شيء منتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة وذلك لأنه ضاع بالكلية وفسد، وهذه الآية دالة على كون العبد مكتسباً لأفعاله.

واعلم أنه تعالى لما تمم هذا المثال قال: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: وجه النظم أنه تعالى لما بين أن أعمالهم تصير باطلة ضائعة، بين أن ذلك البطلان والإحباط إنما جاء بسبب صدر منهم وهو كفرهم بالله وإعراضهم عن العبودية فإن الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداء، وكيف يليق بحكمته أن يفعل ذلك وأنه تعالى ما خلق كل هذا العالم إلا لداعية الحكمة والصواب.

المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي: { خَـٰلِقٌ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } على اسم الفاعل على أنه خبر أن والسموات والأرض على الإضافة كقوله: { { فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [إبراهيم: 10]. { { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ } [الأنعام: 95]. و { { جَعَلَ ٱلَّيْلَ سَكَناً } [الأنعام: 96] والباقون خلق على فعل الماضي: { ٱلسَّمَواتِ وٱلأَرْضِ } بالنصب لأنه مفعول.

المسألة الثالثة: قوله: { بِٱلْحَقِّ } نظير لقوله في سورة يونس: { { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } [يونس: 5] ولقوله في آل عمران: { { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً } [آل عمران: 191] ولقوله في ص: { { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـٰطِلاً } [صۤ: 27] أما أهل السنة فيقولون إلا بالحق وهو دلالتهما على وجود الصانع وعلمه وقدرته، وأما المعتزلة فيقولون: إلا بالحق، أي لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح.

ثم قال تعالى: { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } والمعنى: أن من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق، فبأن يقدر على إفناء قوم وإماتتهم وعلى إيجاد آخرين وإحيائهم كان أولى، لأن القادر على الأصعب الأعظم بأن يكون قادراً على الأسهل الأضعف أولى. قال ابن عباس: هذا الخطاب مع كفار مكة، يريد أميتكم يا معشر الكفار، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم.

ثم قال: { وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } أي ممتنع لما ذكرنا أن القادر على إفناء كل العالم وإيجاده بأن يكون قادراً على إفناء أشخاص مخصوصين وإيجاده أمثالهم أولى وأحرى، والله أعلم.