التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ
٢٨
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ
٢٩
وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ
٣٠
-إبراهيم

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى عاد إلى وصف أحوال الكفار في هذه الآية فقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا } نزل في أهل مكة حيث أسكنهم الله تعالى حرمه الآمن وجعل عيشهم في السعة وبعث فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، ثم إنه تعالى حكى عنهم أنواعاً من الأعمال القبيحة.

النوع الأول: قوله: { بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا } وفيه وجوه: الأول: يجوز أن يكون بدلوا شكر نعمة الله كفراً، لأنه لما وجب عليهم الشكر بسبب تلك النعمة أتوا بالكفر، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً. والثاني: أنهم بدلوا نفس نعمة الله كفراً لأنهم لما كفروا سلب الله تلك النعمة عنهم فبقي الكفر معهم بدلاً من النعمة. الثالث: أنه تعالى أنعم عليهم بالرسول والقرآن فاختاروا الكفر على الإيمان.

والنوع الثاني: ما حكى الله تعالى عنهم قوله: { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ } وهو الهلاك يقال رجل بائر وقوم بور، ومنه قوله تعالى: { { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } } [الفتح: 12] وأراد بدار البوار جهنم بدليل أنه فسرها بجهنم فقال: { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } أي المقر وهو مصدر سمي به.

النوع الثالث: من أعمالهم القبيحة قوله: { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً ذكر أنهم بعد أن كفروا بالله جعلوا له أنداداً، والمراد من هذا الجعل الحكم والاعتقاد والقول، والمراد في الأنداد الأشباه والشركاء، وهذا الشريك يحتمل وجوهاً: أحدها: أنهم جعلوا للأصنام حظاً فيما أنعم الله به عليهم نحو قولهم هذا لله وهذا لشركائنا. وثانيها: أنهم شركوا بين الأصنام وبين خالق العالم في العبودية. وثالثها: أنهم كانوا يصرحون بإثبات الشركاء لله وهو قولهم في الحج لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.

المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأبو عمرو { لِيُضِلُّواْ } بفتح الياء من ضل يضل والباقون بضم الياء من أضل غيره يضل.

المسألة الثالثة: اللام في قوله: { لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ } لام العاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ويحتمل أن تكون لام كي، أي الذين اتخذوا الوثن كي يضلوا غيرهم هذا إذا قرىء بالضم فإنه يحتمل الوجهين، وإذا قرىء بالنصب فلا يحتمل إلا لام العاقبة لأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم. وتحقيق القول في لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل أول الفكر آخر العمل. وكل ما حصل في العاقبة كان شبيهاً بالأمر المقصود في هذا المعنى، والمشابهة أحد الأمور المصححة لحسن المجاز، فلهذا السبب حسن ذكر اللام في العاقبة، ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال: { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } والمراد أن حال الكافر في الدنيا كيف كانت، فإنها بالنسبة إلى ما سيصل إليه من العقاب في الآخرة تمتع ونعيم، فلهذا المعنى قال: { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } وأيضاً إن هذا الخطاب مع الذين حكى الله عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً، فأولئك كانوا في الدنيا في نعم كثيرة فلا جرم حسن قوله تعالى: { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } وهذا الأمر يسمى أمر التهديد ونظيره قوله تعالى: { { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [فصلت: 40] وكقوله: { { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ } [الزمر: 8].