التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ
٣٥
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٦
-إبراهيم

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى ألبتة حكى عن إبراهيم عليه السلام مبالغته في إنكار عبادة الأوثان.

واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أشياء: أحدها: قوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِنًا } والمراد: مكة آمناً ذا أمن.

فإن قيل: أي فرق بين قوله: { { اجعل هذا بلداً آمناً } [البقرة:126] وبين قوله: { ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِنًا }.

قلنا: سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فلا يخافون، وفي الثاني: أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها، وهي الخوف، ويحصل لها ضد تلك الصفة وهو الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمناً، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة. وثانيها: قوله: { وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرىء { وَٱجْنُبْنِى } وفيه ثلاث لغات جنبه واجنبه وجنبه. قال الفراء: أهل الحجاز يقول جنبني يجنبني بالتخفيف. وأهل نجد يقولون جنبني شره وأجنبني شره، وأصله جعل الشيء عن غيره على جانب وناحية.

المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الإشكال على هذه الآية من وجوه: أحدها: أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل مكة آمناً، وما قبل الله دعاءه، لأن جماعة خربوا الكعبة وأغاروا على مكة. وثانيها: أن الأنبياء عليهم السلام لا يعبدون الوثن ألبتة، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله أجنبني عن عبادة الأصنام. وثالثها: أنه طلب من الله تعالى أن لا يجعل أبناءه من عبدة الأصنام والله تعالى لم يقبل دعاءه، ولأن كفار قريش كانوا من أولاده، مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام.

فإن قالوا: إنهم ما كانوا أبناء إبراهيم وإنما كانوا أبناء أبنائه، والدعاء مخصوص بالأبناء، فنقول: فإذا كان المراد من أولئك الأبناء أبناءه من صلبه، وهم ما كانوا إلا إسماعيل وإسحاق، وهما كانا من أكابر الأنبياء وقد علم أن الأنبياء لا يعبدون الصنم، فقد عاد السؤال في أنه ما الفائدة في ذلك الدعاء.

والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول: أنه نقل أنه عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة ذكر هذا الدعاء، والمراد منه: جعل تلك البلدة آمنة من الخراب. والثاني: أن المراد جعل أهلها آمنين، كقوله: { { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] أي أهل القرية، وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين، وعلى هذا التقدير فالجواب من وجهين:

الوجه الأول: ما اختصت به مكة من حصول مزيد من الأمن، وهو أن الخائف كان إذا التجأ إلى مكة أمن، وكان الناس مع شدة العداوة بينهم يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضاً، ومن ذلك أمن الوحش فإنهم يقربون من الناس إذا كانوا بمكة، ويكونون مستوحشين عن الناس خارج مكة، فهذا النوع من الأمن حاصل في مكة فوجب حمل الدعاء عليه.

والوجه الثاني: أن يكون المراد من قوله: { ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِنًا } أي بالأمر والحكم بجعله آمناً وذلك الأمر والحكم حاصل لا محالة.

والجواب: عن السؤال الثاني قال الزجاج: معناه ثبتني على اجتناب عبادتها كما قال: { { وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [البقرة: 128] أي ثبتنا على الإسلام.

ولقائل أن يقول السؤال باق لأنه لما كان من المعلوم أنه تعالى يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب من عبادة الأصنام فما الفائدة في هذا السؤال والصحيح عندي في الجواب وجهان: الأول: أنه عليه السلام وإن كان يعلم أنه تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضماً للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب. والثاني: أن الصوفية يقولون: إن الشرك نوعان: شرك جلي وهو الذي يقول به المشركون، وشرك خفي وهو تعليق القلب بالوسايط وبالأسباب الظاهرة والتوحيد المحض هو أن ينقطع نظره عن الوسايط ولا يرى متصرفاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله: { وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } المراد منه أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي والله أعلم بمراده.

والجواب عن السؤال الثالث من وجوه: الأول: قال صاحب «الكشاف»: قوله { وبني } أراد بنيه من صلبه والفائدة في هذا الدعاء عين الفائدة التي ذكرناها في قوله: { وَٱجْنُبْنِى }. والثاني: قال بعضهم أراد من أولاده وأولاد أولاده كل من كانوا موجودين حال الدعاء ولا شبهة أن دعوته مجابة فيهم. الثالث: قال مجاهد: لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنماً، والصنم هو التمثال المصور ما ليس بمصور فهو وثن. وكفار قريش ما عبدوا التمثال وإنما كانوا يعبدون أحجاراً مخصوصة وأشجاراً مخصوصة، وهذا الجواب ليس بقوي، لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والحجر كالصنم في ذلك. الرابع: أن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية: { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنّي } وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى لنوح: { { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـٰلِحٍ } [هود: 46]. والخامس: لعله وإن كان عمم في الدعاء إلا أن الله تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء عليهم السلام، ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: { { قَالَ إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ } [البقرة: 124].

المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بقوله: { وَٱجْنُبْنِى وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } على أن الكفر والإيمان من الله تعالى، وتقرير الدليل أن إبراهيم عليه السلام طلب من الله أن يجنبه ويجنب أولاده من الكفر فدل ذلك على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان ليس إلا من الله تعالى، وقول المعتزلة إنه محمول على الألطاف فاسد، لأنه عدول عن الظاهر، ولأنا قد ذكرنا وجوهاً كثيرة في إفساد هذا التأويل.

ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلنَّاسِ } واتفق كل الفرق على أن قوله: { أَضْلَلْنَ } مجاز لأنها جمادات، والجماد لا يفعل شيئاً ألبتة، إلا أنه لما حصل الإضلال عند عبادتها أضيف إليها كما تقول فتنتهم الدنيا وغرتهم، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها.

ثم قال: { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } يعني من تبعني في ديني واعتقادي فإنه مني، أي جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني ومن عصاني في غير الدين فإنك غفور رحيم، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن إبراهيم عليه السلام ذكر هذا الكلام والغرض منه الشفاعة في حق أصحاب الكبائر من أمته، والدليل عليه أن قوله: { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة فنقول: أولئك العصاة إما أن يكونوا من الكفار أو لا يكونوا كذلك، والأول باطل من وجهين: الأول: أنه عليه السلام بين في مقدمة هذه الآية أنه مبرأ عن الكفار وهو قوله: { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } وأيضاً قوله: { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ولا يهتم باصلاح مهماته. والثاني: أن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة، ولما بطل هذا ثبت أن قوله: { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } شفاعة في العصاة الذين لا يكونون من الكفار.

وإذا ثبت هذا فنقول: تلك المعصية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو من الكبائر قبل التوبة، والأول والثاني باطلان لأن قوله: { وَمَنْ عَصَانِي } اللفظ فيه مطلق فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر، وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصوم فلا يمكن حمل اللفظ عليه، فثبت أن هذه الآية شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه السلام ثبت حصولها في حق محمد صلى الله عليه وسلم لوجوه: الأول: أنه لا قائل بالفرق. والثاني: وهو أن هذا المنصب أعلى المناصب فلو حصل لإبراهيم عليه السلام مع أنه غير حاصل لمحمد صلى الله عليه وسلم لكان ذلك نقصاناً في حق محمد عليه السلام. والثالث: أن محمداً صلى الله عليه وسلم مأمور بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام لقوله تعالى: { { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90] وقوله: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفًا } فهذا وجه قريب في إثبات الشفاعة لمحمد صلى الله عليه وسلم وفي إسقاط العقاب عن أصحاب الكبائر، والله أعلم.

إذا عرفت هذا فلنذكر أقوال المفسرين: قال السدي معناه: ومن عصاني ثم تاب، وقيل: إن هذا الدعاء إنما كان قبل أن يعلم أن الله تعالى لا يغفر الشرك، وقيل من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم، يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام، وقيل المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب بل يمهلهم حتى يتوبوا أو يكون المراد أن لا تعجل اخترامهم فتفوتهم التوبة. واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة.

أما الأول: وهو حمل هذه الشفاعة على المعصية بشرط التوبة فقد أبطلناه.

وأما الثاني: وهو قوله إن هذه الشفاعة إنما كانت قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك فنقول: هذا أيضاً بعيد، لأنا بينا أن مقدمة هذه الآية تدل على أنه لا يجوز أن يكون مراد إبراهيم عليه السلام من هذا الدعاء هو الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر.

وأما الثالث: وهو قوله المراد من كونه: { غَفُوراً رَّحِيماً } أن ينقله من الكفر إلى الإيمان فهو أيضاً بعيد، لأن المغفرة والرحمة مشعرة بإسقاط العقاب ولا إشعار فيهما بالنقل من صفة الكفر إلى صفة الإيمان، والله أعلم.

وأما الرابع: وهو أن تحمل المغفرة والرحمة على تعجيل العقاب أو ترك تعجيل الإمانة فنقول هذا باطل، لأن كفار زماننا هذا أكثر منهم ولم يعاجلهم الله تعالى بالعقاب ولا بالموت مع أن أهل الإسلام متفقون على أنهم ليسوا مغفورين ولا مرحومين فبطل تفسير المغفرة والرحمة على ترك تعجيل العقاب بهذا الوجه وظهر بما ذكرنا صحة ما قررناه من الدليل، والله أعلم.