التفاسير

< >
عرض

وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ
٥١
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ
٥٢
قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ
٥٣
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ
٥٤
قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ
٥٥
قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ
٥٦
-الحجر

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير أمر النبوة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد، ثم ذكر عقيبه أحوال القيامة وصفة الأشقياء والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغباً في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء، ومحذراً عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء، فبدأ أولاً بقصة إبراهيم عليه السلام، والضمير في قوله: { وَنَبّئْهُمْ } راجع إلى قوله: { عِبَادِى } والتقدير: ونبىء عبادي عن ضيف إبراهيم، يقال: أنبأت القوم إنباء ونبأتهم تنبئة إذا أخبرتهم وذكر تعالى في الآية أن ضيف إبراهيم عليه السلام بشروه بالولد بعد الكبر. وبانجاء المؤمنين من قوم لوط من العذاب وأخبروه أيضاً بأنه تعالى سيعذب الكفار من قوم لوط بعذاب الاستئصال، وكل ذلك يقوي ما ذكره من أنه غفور رحيم للمؤمنين، وأن عذابه عذاب أليم في حق الكفار.

المسألة الثانية: الضيف في الأصل مصدر ضاف يضيف إذا أتى إنساناً لطلب القرى، ثم سمى به، ولذلك وحد في اللفظ وهم جماعة.

فإن قيل: كيف سماهم ضيفاً مع امتناعهم عن الأكل؟

قلنا: لما ظن إبراهيم أنهم إنما دخلوا عليه لطلب الضيافة جاز تسميتهم بذلك. وقيل أيضاً: إن من يدخل دار الإنسان ويلتجىء إليه يسمى ضيفاً وإن لم يأكل، وقوله تعالى: { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا } أي نسلم عليك سلاماً أو سلمت سلاماً، فقال إبراهيم: { إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي خائفون، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل. وقيل: لأنهم دخلوا عليه بغير إذن وبغير وقت وقرأ الحسن: { لاَ تَوْجَلْ } بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه. وقرىء لا تأجل ولا تواجل من واجله بمعنى أو جله، وهذه القصة قد مر ذكرها بالاستقصاء في سورة هود. وقوله: { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍ } فيه أبحاث:

البحث الأول: قرأ حمزة: { إِنَّا نُبَشّرُكَ } بفتح النون، وتخفيف الباء، والباقون: { نُبَشّرُكَ } بالتشديد.

البحث الثاني: قوله: { إنا نُبَشّرُكَ } استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، والمعنى: أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل.

البحث الثالث: قوله: { إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍ } بشروه بأمرين: أحدهما: أن الولد ذكر والآخر أنه يصير عليماً، واختلفوا في تفسير العليم، فقيل: بشروه بنبوته بعده. وقيل: بشروه بأنه عليم بالدين. ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون، فمعنى: { عَلَىٰ } ههنا للحال أي حالة الكبر، وقوله: { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } فيه مسألتان:

المسألة الأولى: لفظ ما ههنا استفهام بمعنى التعجب كأنه قال: بأي أعجوبة تبشروني؟

فإن قيل: في الآية إشكالان: الأول: أنه كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلق الولد منه في زمان الكبر وإنكار قدرة الله تعالى في هذا الموضع كفر. الثاني: كيف قال: { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } مع أنهم قد بينوا ما بشروه به، وما فائدة هذا الإستفهام. قال القاضي: أحسن ما قيل في الجواب عن ذلك أنه أراد أن يعرف أنه تعالى يعطيه الولد مع أنه يبقيه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شاباً، ثم يعطيه الولد، والسبب في هذا الاستفهام أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامة وإنما يحصل في حال الشباب.

فإن قيل: فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم فلم قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين.

قلنا: إنهم بينوا أن الله تعالى بشره بالولد مع إبقائه على صفة الشيخوخة وقوله: فلا تكن من القانطين. لا يدل على أنه كان كذلك، بدليل أنه صرح في جوابهم بما يدل على أنه ليس كذلك فقال: { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ } وفيه جواب آخر، وهو أن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيء وفاته الوقت الذي يغلب على ظنه حصول ذلك المراد فيه، فإذا بشر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه وسروره ويصير ذلك الفرح القوي كالمدهش له والمزيل لقوة فهمه وذكائه فلعله يتكلم بكلمات مضطربة في ذلك الفرح في ذلك الوقت، وقيل أيضاً: إنه يستطيب تلك البشارة فربما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة، وطلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق مثل قوله: { { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } [البقرة: 260] وقيل أيضاً: استفهم أبأمر الله تبشرون أم من عند أنفسكم واجتهادكم؟

المسألة الثانية: قرأ نافع: { تُبَشّرُونَ } بكسر النون خفيفة في كل القرآن، وقرأ ابن كثير بكسر النون وتشديدها. والباقون بفتح النون خفيفة، أما الكسر والتشديد فتقديره تبشرونني أدغمت نون الجمع في نون الإضافة، وأما الكسر والتخفيف فعلى حذف نون الجمع استثقالاً لاجتماع المثلين وطلباً للتخفيف قال أبو حاتم: حذف نافع الياء مع النون. قال: وإسقاط الحرفين لا يجوز، وأجيب عنه: بأنه أسقط حرفاً واحداً وهي النون التي هي علامة للرفع. وعلى أن حذف الحرفين جائز قال تعالى في موضع: { وَلاَ تَكُ } وفي موضع: { وَلاَ تَكُن } فأما فتح النون فعلى غير الإضافة والنون علامة الرفع وهي مفتوحة أبداً، وقوله: { بَشَّرْنَـٰكَ بِٱلْحَقّ } قال ابن عباس: يريد بما قضاه الله تعالى والمعنى: أن الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق عليه السلام. ويخرج من صلب إسحق مثل ما أخرج من صلب آدم فإنه تعالى بشر بأنه يخرج من صلب إسحق أكثر الأنبياء فقوله: { بِٱلْحَقّ } إشارة إلى هذا المعنى وقوله: { فَلاَ تَكُن مّنَ ٱلْقَـٰنِطِينَ } نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط وقد ذكرنا كثيراً أن نهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كون المنهى فاعلاً للمنهى عنه كما في قوله: { { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ } [الأحزاب: 1] ثم حكى تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ } وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: هذا الكلام حق، لأن القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا عند الجهل بأمور: أحدها: أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه. وثانيها؛ أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياج ذلك العبد إليه. وثالثها: أن يجهل كونه تعالى منزهاً عن البخل والحاجة والجهل فكل هذه الأمور سبب للضلال، فلهذا المعنى قال: { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ }.

المسألة الثانية: قرأ أبو عمرو والكسائي: (يقنط) بكسر النون ولا تقنطوا كذلك، والباقون بفتح النون وهما لغتان: قنط يقنط، نحو ضرب يضرب، وقنط يقنط نحو علم يعلم، وحكى أبو عبيدة: قنط يقنط بضم النون، قال أبو علي الفارسي: قنط يقنط بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات يدل على ذلك اجتماعهم في قوله: { { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } [الشورى: 28] وحكاية أبي عبيدة تدل أيضاً على أن قنط بفتح النون أكثر، لأن المضارع من فعل يجيء على يفعل ويفعل مثل فسق يفسق ويفسق ولا يجيء مضارع فعل على يفعل، والله أعلم.