التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ
١٠
يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١١
-النحل

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن أشرف أجسام العالم السفلي بعد الحيوان النبات، فلما قرر الله تعالى الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات، أتبعه في هذه الآية بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات.

واعلم أن الماء المنزل من السماء هو المطر، وأما أن المطر نازل من السحاب أو من السماء فقد ذكرناه في هذا الكتاب مراراً، والحاصل: أن ماء المطر قسمان: أحدهما: هو الذي جعله الله تعالى شراباً لنا ولكل حي، وهو المراد بقوله: { لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ } وقد بين الله تعالى في آية أخرى أن هذه النعمة جليلة فقال: { { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَيْء حيّ } [الأنبياء: 30].

فإن قيل: أفتقولون إن شرب الخلق ليس إلا من المطر، أو تقولون قد يكون منه وقد يكون من غيره، وهو الماء الموجود في قعر الأرض؟

أجاب القاضي: بأنه تعالى بين أن المطر شرابنا ولم ينف أن نشرب من غيره.

ولقائل أن يقول: ظاهر الآية يدل على الحصر، لأن قوله: { لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ } يفيد الحصر لأن معناه منه لا من غيره.

إذا ثبت هذا فنقول: لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر يسكن هناك، والدليل عليه قوله تعالى في سورة المؤمنين: { { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلأَرْضِ } [المؤمنون: 18] ولا يمتنع أيضاً في غير العذب وهو البحر أن يكون من جملة ماء المطر، والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات وإليه الإشارة بقوله: { وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } إلى آخر الآية، وفيه مباحث:

البحث الأول: ظاهر هذه الآية يقتضي أن أسامة الشجر ممكنة، وهذا إنما يصح لو كان المراد من الشجر الكلأ والعشب، وههنا قولان:

القول الأول: قال الزجاج: كل ما ثبت على الأرض فهو شجر وأنشد:

يطعمها اللحم إذا عز الشجر

يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، وقال ابن قتيبة في هذه الآية المراد من الشجر الكلأ، وفي حديث عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ.

ولقائل أن يقول: إنه تعالى قال: { { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمن: 6] والمراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق، ومن الشجر ما له ساق، هكذا قال المفسرون، وبالجملة فلما عطف الشجر على النجم دل على التغاير بينهما، ويمكن أن يجاب عنه بأنه عطف الجنس على النوع وبالضد مشهور وأيضاً فلفظ الشجر مشعر بالاختلاط، يقال: تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض وتشاجرت الرماح إذا اختلطت وقال تعالى: { { حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [النساء: 65] ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ، فوجب جواز إطلاق لفظ الشجر عليه.

القول الثاني: أن الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما ذكرناه في القول الأول.

البحث الثاني: قوله: { فِيهِ تُسِيمُونَ } أي في الشجر ترعون مواشيكم يقال: أسمت الماشية إذا خليتها ترعى، وسامت هي تسوم سوماً إذا رعت حيث شاءت فهي سوام وسائمة قال الزجاج: أخذ ذلك من السومة وهي العلامة. وتأويلها أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات، وقال غيره: لأنها تعلم للإرسال في المرعى، وتمام الكلام في هذا اللفظ قد ذكرناه في سورة آل عمران في قوله تعالى: { { وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ } [آل عمران: 14].

أما قوله تعالى: { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَـٰبَ } ففيه مباحث:

البحث الأول: هو أن النبات الذي ينبته الله من ماء السماء قسمان: أحدهما: معد لرعي الأنعام وأسامة الحيوانات، وهو المراد من قوله: { فِيهِ تُسِيمُونَ }. والثاني: ما كان مخلوقاً لأكل الإنسان وهو المراد من قوله: { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ }.

فإن قيل: إنه تعالى بدأ في هذه الآية بذكر ما يكون مرعى للحيوانات، وأتبعه بذكر ما يكون غذاء للإنسان، وفي آية أخرى عكس هذا الترتيب فبدأ بذكر مأكول الإنسان، ثم بما يرعاه سائر الحيوانات فقال: { { كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَـٰمَكُمْ } [طه: 54] فما الفائدة فيه؟

قلنا: أما الترتيب المذكور في هذه الآية فينبه على مكارم الأخلاق وهو أن يكون اهتمام الإنسان بمن يكون تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه، وأما الترتيب المذكور في الآية الأخرى، فالمقصود منه ما هو المذكور في قوله عليه السلام: " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " .

البحث الثاني: قرأ عاصم في رواية أبي بكر: { ننبت } بالنون على التفخيم والباقون بالياء، قال الواحدي: والياء أشبه بما تقدم.

البحث الثالث: اعلم أن الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء، والغذاء إما أن يكون من الحيوان أو من النبات. والغذاء الحيواني أشرف من الغذاء النباتي، لأن تولد أعضاء الإنسان عند أكل أعضاء الحيوان أسهل من تولدها عند أكل النبات لأن المشابهة هناك أكمل وأتم والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات والسعي في تنميتها بواسطة الرعي، وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في الأسامة، وأما الغذاء النباتي فقسمان: حبوب. وفواكه، أما الحبوب فإليها الإشارة بلفظ الزرع وأما الفواكه فأشرفها الزيتون. والنخيل. والأعناب، أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج، وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه، فظاهر معلوم، وكما أنه تعالى لما ذكر الحيوانات التي ينتفع الناس بها على التفصيل، ثم قال في صفة البقية: { { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8] فكذلك ههنا لما ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، قال في صفة البقية: { وَمِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } تنبيهاً على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها لا يمكن ذكره في مجلدات، فالأولى الاقتصار فيه على الكلام المجمل.

ثم قال: { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وههنا بحثان:

البحث الأول: في شرح كون هذه الأشياء آيات دالة على وجود الله تعالى فنقول: إن الحبة الواحدة تقع في الطين فإذا مضت على هذه الحالة مقادير معينة من الوقت نفذت في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنتفخ الحبة فينشق أعلاها وأسفلها، فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء. ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة، ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى، ثم يخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار، ثم إن تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب، فإن قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان، ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان.

إذا عرفت هذا فنقول: نسبة الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ونسبة التأثيرات الفلكية والتحريكات الكوكبية إلى الكل متشابهة. ومع تشابه نسب هذه الأشياء ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع والطعم واللون والرائحة والصفة، فدل صريح العقل على أن ذلك ليس إلا لأجل فاعل قادر حكيم رحيم فهذا تقدير هذه الدلالة.

البحث الثاني: أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله: { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } والسبب فيه أنه تعالى ذكر أنه: { أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً... يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَـٰبَ }.

ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه تعالى هو الذي أنبتها ولم لا يجوز أن يقال: إن هذه الأشياء إنما حدثت وتولدت بسبب تعاقب الفصول الأربعة وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب؟ وإذا عرفت هذا السؤال فما لم يقم الدليل على فساد هذا الاحتمال لا يكون هذا الدليل تاماً وافياً بإفادة هذا المطلوب، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً، فلهذا السبب ختم هذه الآية بقوله: { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }.