التفاسير

< >
عرض

وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١١٢
-النحل

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هددهم أيضاً بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف، كما ذكره في هذه الآية.

المسألة الثانية: المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن موجوداً وقد يضرب بشيء موجود معين، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً ويحتمل أن تكون قرية معينة، وعلى هذا التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها، والأكثرون من المفسرين على أنها مكة، والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة، ومثل مكة يكون غير مكة.

المسألة الثالثة: ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات:

الصفة الأولى: كونها آمنة أي ذات أمن لا يغار عليهم كما قال: { { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67] والأمر في مكة كان كذلك، لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض. أما أهل مكة، فإنهم كانوا أهل حرم الله، والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم.

واعلم أنه يجوز وصف القرية بالأمن، وإن كان ذلك لأهلها لأجل أنها مكان الأمن وظرف له، والظروف من الأزمنة والأمكنة توصف بما حلها، كما يقال: طيب وحار وبارد.

والصفة الثانية: قوله: { مُّطْمَئِنَّةً } قال الواحدي: معناه أنها قارة ساكنة فأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق. أقول: إن كان المراد من كونها مطمئنة أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف، فهذا هو معنى كونها آمنة، وإن كان المراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الضيق، فهذا هو معنى قوله: { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ } وعلى كلا التقديرين فإنه يلزم التكرار.

والجواب: أن العقلاء قالوا:

ثلاثة ليس لها نهايةالأمن والصحة والكفاية

قوله: { ءَامِنَةً } إشارة إلى الأمن، وقوله: { مُّطْمَئِنَّةً } إشارة إلى الصحة، لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائماً لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه، وقوله: { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ } إشارة إلى الكفاية. قال المفسرون وقوله: { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } السبب فيه إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام وهو قوله: { { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِ } [إبراهيم: 37] ثم إنه تعالى لما وصف القرية بهذه الصفات الثلاثة قال: { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } الأنعم جمع نعمة مثل أشد وشدة أقول ههنا سؤال: وهو أن الأنعم جمع قلة، فكان المعنى: أن أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من النعم فعذبها الله، وكان اللائق أن يقال: إنهم كفروا بنعم عظيمة لله فاستوجبوا العذاب، فما السبب في ذكر جمع القلة؟

والجواب: المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى يعني أن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب، وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به وبالغوا في إيذائه فلا جرم سلط الله عليهم البلاء. قال المفسرون: عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والقد، أما الخوف فهو أن النبـي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم. ونقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابـي الأديب: هل يذاق اللباس؟ قال ابن الأعرابـي: لا باس ولا لباس يا أيها النسناس، هب أنك تشك أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً وكان مقصود ابن الراوندي الطعن في هذه الآية، وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس فكان الواجب أن يقال: فكساهم الله لباس الجوع، أو يقال: فأذاقهم الله طعم الجوع. وأقول جوابه من وجوه:

الوجه الأول: أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان. أحدهما: أن المذوق هو الطعم فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع. والثاني: أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات، فأشبه اللباس. فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر الله تعالى كلا الاعتبارين، فقال: { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ }.

والوجه الثاني: أن التقدير أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة وأصل الذوق بالفم، ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف وهو الاختبار، تقول: ناظر فلاناً وذق ما عنده. قال الشاعر:

ومن يذق الدنيا فإني طعمتهاوسيق إلينا عذبها وعذابها

ولباس الجوع والخوف هو ما ظهر عليهم من الضمور وشحوب اللون ونهكة البدن وتغير الحال وكسوف البال فكما تقول: تعرفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان، كذلك يجوز أن تقول: ذقت لباس الجوع والخوف على فلان.

والوجه الثالث: أن يحمل لفظ اللبس على المماسة، فصار التقدير: فأذاقها الله مساس الجوع والخوف.

ثم قال تعالى: { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } قال ابن عباس: يريد بفعلهم بالنبـي صلى الله عليه وسلم حين كذبوه وأخرجوه من مكة وهموا بقتله. قال الفراء: ولم يقل بما صنعت، ومثله في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى: { { فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَـٰتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [الأعراف: 4] ولم يقل قائلة، وتحقيق الكلام أنه تعالى وصف القرية بأنها مطمئنة يأتيها رزقها رغداً فكفرت بأنعم الله، فكل هذه الصفات، وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية، إلا أن المراد في الحقيقة أهلها، فلا جرم قال في آخر الآية: { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }، والله أعلم.