التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣
-النحل

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أن معرفة الحق لذاته، وهي المراد من قوله: { أَنَّهُ لآ إِلَـٰهَ إلآ أَنَاْ } ومعرفة الخير لأجل العمل به وهي المراد من قوله: { { فَٱتَّقُونِ } [النحل: 2] روح الأرواح، ومطلع السعادات، ومنبع الخيرات والكرامات، أتبعه بذكر الدلائل على وجود الصانع الإله تعالى وكمال قدرته وحكمته.

واعلم أنا بينا أن دلائل الإلهيات، إما التمسك بطريقة الإمكان في الذوات أو في الصفات. أو التمسك بطريقة الحدوث في الذوات أو في الصفات أو بمجموع الإمكان والحدوث في الذوات أو الصفات، فهذه طرق ستة، والطريق المذكور في كتب الله تعالى المنزلة، هو التمسك بطريقة حدوث الصفات وتغيرات الأحوال. ثم هذا الطريق يقع على وجهين: أحدهما: أن يتمسك بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى، وهذا الطريق هو المذكور في أول سورة البقرة، فإنه تعالى قال: { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ } فجعل تعالى تغير أحوال نفس كل واحد دليلاً على احتياجه إلى الخالق. ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الآباء والأمهات، وإليه الإشارة بقوله: { { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة: 21] ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الأرض، وهي قوله: { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } لأن الأرض أقرب إلينا من السماء، ثم ذكر في المرتبة الرابعة قوله: { وَٱلسَّمَاء بِنَاء } ثم ذكر في المرتبة الخامسة الأحوال المتولدة من تركيب السماء بالأرض، فقال: { { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ } [البقرة: 22].

الثاني من الدلائل القرآنية؛ أن يحتج الله تعالى بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون، وهذا الطريق هو المذكور في هذه السورة، وذلك لأنه تعالى ابتدأ في الاحتجاج على وجود الإله المختار بذكر الأجرام العالية الفلكية، ثم ثنى بذكر الاستدلال بأحوال الإنسان، ثم ثلث بذكر الاستدلال بأحوال الحيوان، ثم ربع بذكر الاستدلال بأحوال النبات، ثم خمس بذكر الاستدلال بأحوال العناصر الأربعة، وهذا الترتيب في غاية الحسن.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول:

النوع الأول: من الدلائل المذكورة على وجود الإله الحكيم الاستدلال بأحوال السموات والأرض فقال: { خُلِقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ تَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: { { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام: 1] إن لفظ الخلق من كم وجه يدل على الاحتياج إلى الخالق الحكيم، ولا بأس بأن نعيد تلك الوجوه ههنا فنقول: الخلق عبارة عن التقدير بمقدار مخصوص، وهذا المعنى حاصل في السموات من وجوه: الأول: أن كل جسم متناه فجسم السماء متناه، وكل ما كان متناهياً في الحجم والقدر، كان اختصاصه بذلك القدر المعين دون الأزيد والأنقص امراً جائزاً، وكل جائز فلا بد له من مقدر ومخصص، وكل ما كان مفتقراً إلى الغير فهو محدث. الثاني: وهو أن الحركة الأزلية ممتنعة، لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، والأزل ينافيه فالجمع بين الحركة والأزل محال.

إذا ثبت هذا فنقول: إما أن يقال أن الأجرام والأجسام كانت معدومة في الأزل، ثم حدثت أو يقال إنها وإن كانت موجودة في الأزل إلا أنها كانت ساكنة ثم تحركت. وعلى التقديرين فلحركتها أول، فحدوث الحركة من ذلك المبدأ دون ما قبله أو ما بعده خلق وتقدير، فوجب افتقاره إلى مقدر وخالق ومخصص له. الثالث: أن جسم الفلك مركب من أجزاء بعضها حصلت في عمق جرم الفلك وبعضها في سطحه، والذي حصل في العمق كان يعقل حصوله في السطح وبالعكس، وإذا ثبت هذا كان اختصاص كل جزء بموضعه المعين أمراً جائزاً فيفتقر إلى المخصص والمقدر، وبقية الوجوه مذكورة في أول سورة الأنعام.

واعلم أنه سبحانه لما احتج بالخلق والتقدير على حدوث السموات والأرض قال بعده: { تَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } والمراد أن القائلين بقدم السموات والأرض كأنهم أثبتوا لله شريكاً في كونه قديماً أزلياً فنزه نفسه عن ذلك، وبين أنه لا قديم إلا هو، وبهذا البيان ظهر أن الفائدة المطلوبة من قوله: { { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس: 18] في أول السورة غير الفائدة المطلوبة من ذكر هذه الكلمة ههنا، لأن المطلوب هناك إبطال قول من يقول: إن الأصنام تشفع للكفار في دفع العقاب عنهم، والمقصود ههنا إبطال قول من يقول: الأجسام قديمة، والسموات والأرض أزلية، فنزه الله سبحانه نفسه عن أن يشاركه غيره في الأزلية والقدم، والله أعلم.