التفاسير

< >
عرض

وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٠
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ
٣١
ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٣٢
-النحل

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما بين أحوال الأقوام الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أساطير الأولين. وذكر أنهم يحملون أوزارهم ومن أوزار أتباعهم، وذكر أن الملائكة تتوفاهم ظالمي أنفسهم، وذكر أنهم في الآخرة يلقون السلم، وذكر أنه تعالى يقول لهم ادخلوا أبواب جهنم، أتبعه بذكر وصف المؤمنين الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم؟ قالوا خيراً، وذكر ما أعده لهم في الدنيا والآخرة من منازل الخيرات ودرجات السعادات ليكون وعد هؤلاء مذكوراً مع وعيد أولئك وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال القاضي: يدخل تحت التقوى أن يكون تاركاً لكل المحرمات فاعلاً لكل الواجبات، ومن جمع بين هذين الأمرين فهو مؤمن كامل الإيمان، وقال أصحابنا: يريد الذين اتقوا الشرك وأيقنوا أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأقول: هذا أولى مما قاله القاضي، لأنا بينا أنه يكفي في صدق قوله فلان قاتل أو ضارب كونه آتياً بقتل واحد وضرب واحد، ولا يتوقف صدق هذا الكلام على كونه آتياً بجميع أنواع القتل وجميع أنواع الضرب، فعلى هذا قوله: { وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } يتناول كل من أتى بنوع واحد من أنواع التقوى إلا أنا أجمعنا على أنه لا بد من التقوى عن الكفر والشرك فوجب أن لا يزيد على هذا القيد لأنه لما كان تقييد المطلق خلاف الأصل، كان تقييد المقيد أكثر مخالفة للأصل، وأيضاً فلأنه تعالى إنما ذكر هؤلاء في مقابلة أولئك الذين كفروا وأشركوا، فوجب أن يكون المراد من اتقى عن ذلك الكفر والشرك، والله أعلم.

المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إنه قال في الآية الأولى، قالوا أساطير الأولين، وفي هذه الآية قالوا خيراً، فلم رفع الأول ونصب هذا؟.

أجاب صاحب «الكشاف» عنه بأن قال: المقصود منه الفصل بين جواب المقر وجواب الجاحد يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفاً مفعولاً للإنزال فقالوا خيراً أي أنزل خيراً، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شيء.

المسألة الثالثة: قال المفسرون هذا كان في أيام الموسم، يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون إنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه فيقولون خيراً، والمعنى: أنزل خيراً. ويحتمل أن يكون المراد الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خير، وقولهم خير جامع لكونه حقاً وصواباً، ولكونهم معترفين بصحته ولزومه فهو بالضد من قول الذين لا يؤمنون بالآخرة، أن ذلك أساطير الأولين على وجه التكذيب.

المسألة الرابعة: قوله: { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } وما بعده بدل من قوله: { خَيْرًا } وهو حكاية لقول الذين اتقوا، أي قالوا هذا القول، ويجوز أيضاً أن يكون قوله: { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } إخباراً عن الله، والتقدير: إن المتقين لما قيل لهم: { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا } ثم إنه تعالى أكد قولهم وقال: { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ } وفي المراد بقوله: { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } قولان، أما الذين يقولون: إن أهل لا إله إلا الله يخرجون من النار فإنهم يحملونه على قول لا إله إلا الله مع الاعتقاد الحق، وأما المعتزلة الذين يقولون: إن فساق أهل الصلاة لا يخرجون من النار يحملون قوله: { أَحْسَنُواْ } على من أتى بالإيمان وجميع الواجبات واحترز عن كل المحرمات. وأما قوله: { فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا } ففيه قولان:

القول الأول: أنه متعلق بقوله: { أَحْسَنُواْ } والتقدير: للذين اتقوا بعمل الحسنة في الدنيا فلهم في الآخرة حسنة، وتلك الحسنة هي الثواب العظيم، وقيل: تلك الحسنة هو أن ثوابها يضاعف بعشر مرات وبسبعمائة وإلى ما لا نهاية له.

والقول الثاني: أن قوله: { فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا } متعلق بقوله: { حَسَنَةٌ } والتقدير: للذين أحسنوا أن تحصل لهم الحسنة في الدنيا، وهذا القول أولى، لأنه قال بعده: { وَلَدَارُ ٱلأَخِرَةِ خَيْرٌ } وعلى هذا التقدير ففي تفسير هذه الحسنة الحاصلة في الدنيا وجوه: الأول: يحتمل أن يكون المراد ما يستحقونه من المدح والتعظيم والثناء والرفعة، وجميع ذلك جزاء على ما عملوه. والثاني: يحتمل أن يكون المراد به الظفر على أعداء الدين بالحجة وبالغلبة لهم، وباستغنام أموالهم وفتح بلادهم، كما جرى ببدر وعند فتح مكة، وقد أجلوهم عنها وأخرجوهم إلى الهجرة، وإخلاء الوطن، ومفارقة الأهل والولد وكل ذلك مما يعظم موقعه. والثالث: يحتمل أن يكون المراد أنهم لما أحسنوا بمعنى أنهم أتوا بالطاعات فتح الله عليهم أبواب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد: 17].

وأما قوله: { وَلَدَارُ ٱلأَخِرَةِ خَيْرٌ } فقد بينا في سورة الأنعام في قوله: { { وَلَلدَّارُ ٱلأَخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [الأنعام: 32] بالدلائل القطعية العقلية حصول هذا الخير، ثم قال: { وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ } أي لنعم دار المتقين دار الآخرة، فحذفت لسبق ذكرها، هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها، فإن وصلتها بما بعدها قلت: ولنعم دار المتقين جنات عدن فترفع جنات على أنها اسم لنعم، كما تقول: نعم الدار دار ينزلها زيد. وأما قوله: { جَنَّـٰتُ عَدْنٍ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنها إن كانت موصولة بما قبلها، فقد ذكرنا وجه ارتفاعها، وأما إن كانت مقطوعة، فقال الزجاج: جنات عدن مرفوعة بإضمار «هي» كأنك لما قلت ولنعم دار المتقين قيل: أي دار هي هذه الممدوحة فقلت: هي جنات عدن، وإن شئت قلت: جنات عدن رفع بالإبتداء، ويدخلونها خبره، وإن شئت قلت: نعم دار المتقين خبره، والتقدير: جنات عدن نعم دار المتقين.

المسألة الثانية: قوله: { جَنَّـٰتُ } يدل على القصور والبساتين وقوله: { عَدْنٍ } يدل على الدوام، وقوله: { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها وتكون الأنهار جارية من تحتهم، ثم إنه تعالى قال: { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ } وفيه بحثان: الأول: أن هذه الكلمة تدل على حصول كل الخيرات والسعادات، وهذا أبلغ من قوله: { { فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [الزخرف: 71] لأن هذين القسمين داخلان في قوله: { لَّهُمْ فِيهَا مَا يشاؤن } مع أقسام أخرى. الثاني: قوله: { لَّهُمْ فِيهَا مَا يشاؤن } يعني هذه الحالة لا تحصل إلا في الجنة، لأن قوله: { لَّهُمْ فِيهَا مَا يشاؤن } يفيد الحصر، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا.

ثم قال تعالى: { كَذَلِكَ يَجْزِى ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ } أي هكذا جزاء التقوى، ثم إنه تعالى عاد إلى وصف المتقين فقال: { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ } وهذا مذكور في مقابلة قوله: { { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } [النحل: 28] وقوله: { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } صفة للمتقين في قوله: { كَذَلِكَ يَجْزِى ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ } وقوله: { طَيّبِينَ } كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة، وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به، واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة مبرئين عن الأخلاق المذمومة، ويدخل فيه كونهم مبرئين عن العلائق الجسمانية متوجهين إلى حضرة القدس والطهارة، ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح وأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله لا يتألم بالموت، وأكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح، وإن كان الحسن يقول: إنه وفاة الحشر، ثم بين تعالى أنه يقال لهم عند هذه الحالة: { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } فاحتج الحسن بهذا على أن المراد بذلك التوفي وفاة الحشر، لأنه لا يقال عند قبض الأرواح في الدنيا ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، ومن ذهب إلى القول الأول وهم الأكثرون يقولون: إن الملائكة لما بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم، ادخلوا الجنة أي هي خاصة لكم كأنكم فيها.