وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو الشبهة الرابعة لمنكري النبوة فقالوا القول بالبعث والحشر والنشر باطل، فكان القول بالنبوة باطلاً.
أما المقام الأول: فتقريره أن الإنسان ليس إلا هذه البينة المخصوصة، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبطل ذلك المزاج والاعتدال امتنع عوده بعينه، لأن الشيء إذا عدم فقد فنى ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فالذي يعود يجب أن يكون شيئاً مغايراً للأول فلا يكون عينه.
وأما المقام الثاني: وهو أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة وتقريره من وجهين: الأول: أن محمداً كان داعياً إلى تقرير القول بالمعاد، فإذا بطل ذلك ثبت أنه كان داعياً إلى القول الباطل ومن كان كذلك لم يكن رسولاً صادقاً. الثاني: أنه يقرر نبوة نفسه ووجوب طاعته بناء على الترغيب في الثواب والترهيب عن العقاب، وإذا بطل ذلك بطلت نبوته.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ } معناه أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن الشيء إذا فنى وصار عدماً محضاً ونفياً صرفاً، فإنه بعد هذا العدم الصرف لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئاً آخر غيره. وهذا القسم واليمين إشارة إلى أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن عوده بعينه بعد عدمه محال في بديهة العقل: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ } على أنهم يجحدون في قلوبهم وعقولهم هذا العلم الضروري، وأما بيان أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة فلم يذكره على سبيل التصريح، لأنه كلام جلي متبادر إلى العقول فتركوه لهذا العذر. ثم إنه تعالى بين أن القول بالبعث ممكن ويدل عليه وجهان:
الوجه الأول: أنه وعد حق على الله تعالى، فوجب تحقيقه، ثم بين السبب الذي لأجله كان وعداً حقاً على الله تعالى، وهو التمييز بين المطيع وبين العاصي، وبين المحق والمبطل، وبين الظالم والمظلوم، وهو قوله: { لِيُبَيّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَـٰذِبِينَ } وهذه الطريقة قد بالغنا في شرحها وتقريرها في سورة يونس.
والوجه الثاني: في بيان إمكان الحشر والنشر أن كونه تعالى موجداً للأشياء ومكوناً لها لا يتوقف على سبق مادة ولا مدة ولا آلة، وهو تعالى إنما يكونها بمحض قدرته ومشئته، وليس لقدرته دافع ولا لمشيئته مانع فعبر تعالى عن هذا النفاذ الخالي عن المعارض بقوله: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وإذا كان كذلك، فكما أنه تعالى قدر على الإيجاد في الإبتداء وجب أن يكون قادراً عليه في الإعادة، فثبت بهذين الدليلين القاطعين أن القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة حق وصدق، والقول إنما طعنوا في صحة النبوة بناء على الطعن في هذا الأصل، فلما بطل هذا الطعن بطل أيضاً طعنهم في النبوة، والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ } حكاية عن الذين أشركوا، وقوله: { بَلَىٰ } إثبات لما بعد النفي، أي بلى يبعثهم، وقوله: { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا } مصدر مؤكد أي وعد بالبعث وعداً حقاً لا خلف فيه، لأن قوله يبعثهم دل على قوله وعد بالبعث، وقوله: { لِيُبَيّنَ لَهُمُ ٱلَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } من أمور البعث أي بلى يبعثهم ليبين لهم وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فيما أقسموا فيه.
ثم قال تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: قوله: { كُنَّ } إن كان خطاباً مع المعدوم فهو محال، وإن كان خطاباً مع الموجود كان هذا أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال.
والجواب: أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع الخلق بما يعقلون، وليس خطاباً للمعدوم، لأن ما أراده الله تعالى فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع، ولو أراد خلق الدنيا والآخرة بما فيهما من السموات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك، ولكن العباد خوطبوا بذلك على قدر عقولهم.
المسألة الثانية: قوله تعالى: { قَوْلُنَا } مبتدأ و { أَن نَّقُولَ } خبره و { كُنْ فَيَكُونُ } من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا حدوث شيء فليس إلا أن نقول له أحدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقف.
المسألة الثالثة: قرأ ابن عامر والكسائي { فَيَكُونُ } بنصب النون، والباقون بالرفع قال الفراء: القراءة بالرفع وجهها أن يجعل قوله: { أَن نَّقُولَ لَهُ } كلاماً تاماً ثم يخبر عنه بأنه سيكون كما يقال: إن زيداً يكفيه إن أمر فيفعل فترفع قولك فيفعل على أن تجعله كلاماً مبتدأ، وأما القراءة بالنصب فوجهه أن تجعله عطفاً على أن نقول، والمعنى: أن نقول كن فيكون هذا قول جميع النحويين، قال الزجاج: ويجوز أن يكون نصباً على جواب { كُنَّ } قال أبو علي لفظة «كن» وإن كانت على لفظة الأمر فليس القصد بها ههنا الأمر إنما هو والله أعلم الإخبار عن كون الشيء وحدوثه، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يبطل قوله إنه نصب على جواب { كُنْ }، والله أعلم.
المسألة الرابعة: احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على قدم القرآن فقالوا قوله تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون، فلو كان قوله { كُنْ } حادثاً لافتقر إحداثه إلى أن يقول له كن وذلك يوجب التسلسل، وهو محال فثبت أن كلام الله قديم.
واعلم أن هذا الدليل عندي ليس في غاية القوة، وبيانه من وجوه:
الوجه الأول: أن كلمة { إِذَا } لا تفيد التكرار، والدليل عليه أن الرجل إذا قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار مرة طلقت طلقة واحدة فلو دخلت ثانياً لم تطلق طلقة ثانية فعلمنا أن كلمة إذا لا تفيد التكرار، وإذا كان كذلك ثبت أنه لا يلزم في كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له كن فلم يلزم التسلسل.
والوجه الثاني: أن هذا الدليل إن صح لزم القول بقدم لفظه «كن» وهذا معلوم البطلان بالضرورة، لأن لفظة: كن، مركبة من الكاف والنون، وعند حضور الكاف لم تكن النون حاضرة وعند مجيء النون تتولى الكاف، وذلك يدل على أن كلمة كن يمتنع كونها قديمة، وإنما الذي يدعي أصحابنا كونه قديماً صفة مغايرة للفظة كن، فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا، والذي يقولون به لا تدل عليه الآية فسقط التمسك به.
والوجه الثالث: أن الرجل إذا قال إن فلاناً لا يقدم على قول، ولا على فعل إلا ويستعين فيه بالله تعالى فإن عاقلاً لا يقول: إن استعانته بالله فعل من أفعاله فيلزم أن يكون كل استعانة مسبوقة باستعانة أخرى إلى غير النهاية لأن هذا الكلام بحسب العرف باطل فكذلك ما قالوه.
والوجه الرابع: أن هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه:
الوجه الأول: أن قوله تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ } يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة، وما كان كذلك فهو محدث.
والوجه الثاني: أنه علق القول بكلمة إذا، ولا شك أن لفظة «إذا» تدخل للاستقبال.
والوجه الثالث: أن قوله: { أَن نَّقُولَ لَهُ } لا خلاف أن ذلك ينبىء عن الاستقبال.
والوجه الرابع: أن قوله: { كُنْ فَيَكُونُ } يدل على أن حدوث الكون حاصل عقيب قوله: { كُنْ } فتكون كلمة { كُنْ } متقدمة على حدوث الكون بزمان واحد، والمتقدم على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثاً.
والوجه الخامس: أنه معارض بقوله تعالى:
{ { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [النساء: 47]، { { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } [الأحزاب: 38]. { { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } [الزمر: 23]. { { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ } [الطور: 34]، { { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إماماً وَرَحْمَةً } [الأحقاف: 12]. فإن قيل: فهب أن هذه الآية لا تدل على قدم الكلام، ولكنكم ذكرتم أنها تدل على حدوث الكلام فما الجواب عنه؟.
قلنا: نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف والأصوات، ونحن نقول بكونه محدثاً مخلوقاً. والله أعلم.