التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً
١٩
إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٢٠
-الكهف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن التقدير وكما: زدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم، فضربنا على آذانهم وأنمناهم وأبقيناهم أحياء لا يأكلون ولا يشربون ونقلبهم فكذلك بعثناهم أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت ليتساءلوا بينهم تساءل تنازع واختلاف في مدة لبثهم، فإن قيل: هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا؟ قلنا: لا يبعد ذلك لأنهم إذا تساءلوا انكشف لهم من قدرة الله تعالى أمور عجيبة وأحوال غريبة، وذلك الانكشاف أمر مطلوب لذاته. ثم قال تعالى: { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ } أي كم مقدار لبثنا في هذا الكهف: { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قال المفسرون إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النهار، فلذلك قالوا لبثنا يوماً فلما رأوا الشمس باقية قالوا أو بعض يوم، ثم قال تعالى: { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ }، قال ابن عباس هو رئيسهم يمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى لأنه لما نظر إلى أشعارهم وأظفارهم وبشرة وجوههم رأى فيها آثار التغير الشديد فعلم أن مثل ذلك التغير لا يحصل إلا في الأيام الطويلة. ثم قال: { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ } قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بورقكم ساكنة الراء مفتوحة الواو ومنهم من قرأ(ها) مكسورة الواو ساكنة الراء وقرأ ابن كثير بورقكم بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم القاف في الكاف، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين على هذه، والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا، ويدل عليه ما روى أن عرفجة اتخذ أنفاً من ورق، وفيه لغات ورق وورق وورق مثل كبد وكبد وكبد، ذكره الفراء والزجاج قال الفراء وكسر الواو أردؤها. ويقال أيضاً للورق الرقة، قال الأزهري أصله ورق مثل صلة وعدة، قال المفسرون كانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم يعني بالمدينة التي يقال لها اليوم طرسوس، وهذه الآية تدل على أن السعي في إمساك الزاد أمر مهم مشروع وأنه لا يبطل التوكل وقوله: { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا }. قال ابن عباس: يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون إيمانهم. وقال مجاهد: كان ملكهم ظالماً فقولهم: { أَزْكَىٰ طَعَامًا } يريدون أيها أبعد عن الغضب، وقيل أيها أطيب وألذ، وقيل أيها أرخص، قال الزجاج: قوله: { أَيُّهَا } رفع بالابتداء، و { أَزْكَىٰ } خبره و { طَعَامًا } نصب على التمييز، وقوله: { وَلْيَتَلَطَّفْ } أي يكون ذلك في سر وكتمان يعني دخول المدينة وشراء الطعام { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } أي لا يخبرن بمكانكم أحداً من أهل المدينة: { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } أي يطلعوا ويشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم: ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه، ومنه قوله تعالى: { { فَأَصْبَحُواْ ظَـٰهِرِينَ } [الصف: 14] أي عالين، وكذلك قوله: { { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ } [التوبة: 33] أي ليعليه وقوله: { يَرْجُمُوكُمْ } يقتلوكم، والرجم بمعنى القتل كثير في التنزيل كقوله: { { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـٰكَ } [هود: 91] وقوله: { { أَن تَرْجُمُونِ } [الدخان: 20] وأصله الرمي، قال الزجاج: أي يقتلوكم بالرجم، والرجم أخبث أنواع القتل: { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ } أي يردوكم إلى دينهم { وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا } أي إذا رجعتم إلى دينهم لن تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة قال الزجاج قوله: { إِذًا أَبَدًا } يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن رجعتم إلى ملتهم أبداً، قال القاضي: ما على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين فأحدهما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل، والآخر هلاك الدين بأن يردوا إلى الكفر، فإن قيل: أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى إنهم أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا: { وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا } قلنا يحتمل أن يكون المراد أنهم لو ردوا هؤلاء المسلمين إلى الكفر على سبيل الإكراه بقوا مظهرين لذلك الكفر مدة فإنه يميل قلبهم إلى ذلك الكفر ويصيرون كافرين في الحقيقة، فهذا الاحتمال قائم فكان خوفهم منه، والله أعلم.