التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً
٢٣
إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً
٢٤
وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً
٢٥
قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً
٢٦
-الكهف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال المفسرون إن القوم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسائل الثلاثة، قال عليه السلام أجيبكم عنها غداً ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحي خمسة عشر يوماً وفي رواية أخرى أربعين يوماً، ثم نزلت هذه الآية، اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين. الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عالماً بأنه إذا أخبر عن أنه سيفعل الفعل الفلاني غداً فربما جاءته الوفاة قبل الغد، وربما عاقه عائق آخر عن الإقدام على ذلك الفعل غداً، وإذا كان كل هذه الأمور محتملاً، فلو لم يقل إن شاء الله ربما خرج الكلام مخالفاً لما عليه الوجود وذلك يوجب التنفير عنه، وعن كلامه عليه السلام، أما إذا قال إن شاء الله كان محترزاً عن هذا المحذور، وإذا كان كذلك كان من البعيد أن يعد بشيء ولم يقل فيه إن شاء الله. الثاني: أن هذه الآية مشتملة على فوائد كثيرة وأحكام جمة فيبعد قصرها على هذا السبب ويمكن أن يجاب عن الأول: أنه لا نزاع أن الأولى أن يقول إن شاء الله إلا أنه ربما اتفق له أنه نسي هذا الكلام لسبب من الأسباب فكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل، وأن يجاب عن الثاني أن اشتماله على الفوائد الكثيرة لا يمنع من أن يكون سبب نزوله واحداً منها.

المسألة الثانية: قوله: { إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } ليس فيه بيان أنه شاء الله ماذا، وفيه قولان: الأول: التقدير: { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } أن يأذن لك في ذلك القول، والمعنى أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك أنك تفعل الفعل الفلاني إلا إذا أذن الله لك في ذلك الإخبار. القول الثاني: أن يكون التقدير: { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً } إلا أن تقول: { إِن شَاء ٱللَّهُ } والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول هو أن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد، ولم يبعد أيضاً لو بقي حياً أن يعوقه عن ذلك الفعل شيء من العوائق، فإذا كان لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في ذلك الوعد، والكذب منفرد وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، فلهذا السبب أوجب عليه أن يقول: { إِن شَاء ٱللَّهُ } حتى أن بتقدير أن يتعذر عليه الوفاء بذلك الموعود لم يصر كاذباً فلم يحصل التنفير.

المسألة الثالثة: اعلم أن مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الإيمان والطاعة من العبد والعبد يريد الكفر والمعصية لنفسه فيقع مراد العبد ولا يقع مراد الله فتكون إرادة العبد غالبة وإرادة الله تعالى مغلوبة، وأما عندنا فكل ما أراد الله تعالى فهو واقع فهو تعالى يريد الكفر من الكافر ويريد الإيمان من المؤمن وعلى هذا التقرير فإرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة إذا عرفت هذا فنقول إذا قال العبد لأفعلن كذا غداً إلا أن يشاء الله والله إنما يدفع عنه الكذب إذا كانت إرادة الله غالبة على إرادة العبد فإن على هذا القول يكون التقدير أن العبد قال أنا أفعل الفعل الفلاني إلا إذا كانت إرادة الله بخلافه فأنا على هذا التقدير لا أفعل لأن إرادة الله غالبة على إرادتي فعند قيام المانع الغالب لا أقوى على الفعل، أما بتقدير أن تكون إرادة الله تعالى مغلوبة فإنها لا تصلح عذراً في هذا الباب، لأن المغلوب لا يمنع الغالب. إذا ثبت هذا فنقول: أجمعت الأمة على أنه إذا قال والله لأفعلن كذا ثم قال: إن شاء الله دافعاً للحنث فلا يكون دافعاً للحنث إلا إذا كانت إرادة الله غالبة، فلما حصل دفع الحنث بالإجماع وجب القطع بكون إرادة الله تعالى غالبة وأنه لا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله وأصحابنا أكدوا هذا الكلام في صورة معينة وهو أن الرجل إذا كان له على إنسان دين وكان ذلك المديون قادراً على أداء الدين فقال والله لأقضين هذا الدين غداً، ثم قال إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض هذا الدين لم يحنث وعلى قول المعتزلة أنه تعالى يريد منه قضاء الدين وعلى هذا التقدير فقوله: { إِن شَاء ٱللَّهُ } تعليق لذلك الحكم على شرط واقع فوجب أن يحنث، ولما أجمعوا على أن لا يحنث علمنا أن ذلك إنما كان لأن الله تعالى ما شاء ذلك الفعل مع أن ذلك الفعل قد أمر الله به ورغب فيه وزجر عن الإخلال به وثبت أنه تعالى قد ينهى عن الشيء ويريده وقد يأمر بالشيء ولا يريده وهو المطلوب، فإن قيل هب أن الأمر كما ذكرتم إلا أن كثيراً من الفقهاء قالوا: إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع الطلاق فما السبب فيه؟ قلنا السبب هو أنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئة الله لم يقع إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا أولاً حصول هذه المشيئة لكن مشيئة الله تعالى غيب فلا سبيل إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة قد وقع وحصل وهو الطلاق فعلى هذا الطريق لا نعرف حصول المشيئة إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا وقوع المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منها على العلم بالآخرة، وهو دور والدور باطل فلهذا السبب قالوا الطلاق غير واقع.

المسألة الرابعة: احتج القائلون بأن المعدوم شيء بقوله: { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * أَن يَشَاء ٱللَّهُ } قالوا: الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً سماه الله تعالى في الحال بأنه شيء لقوله: { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء } ومعلوم أن الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً فهو معدوم في الحال، فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء. والجواب أن هذا الاستدلال لا يفيد إلا أن المعدوم مسمى بكونه شيئاً وعندنا أن السبب فيه أن الذي سيصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال كما أنه قال: { { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل: 1] والمراد سيأتي أمر الله، أما قوله: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } ففيه وجهان: الأول: أنه كلام متعلق بما قبله والتقدير أنه إذا نسي أن يقول إن شاء الله فليذكره إذا تذكره وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس رضي الله عنهما لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في دفع الحنث وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم، وعن طاوس أنه يقدر على الاستثناء في مجلسه، وعن عطاء يستثني على مقدار حلب الناقة الغزيرة، وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً، واحتج ابن عباس بقوله: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } لأن الظاهر أن المراد من قوله: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } هو الذي تقدم ذكره في قوله: { إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } وقوله: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ } غير مختص بوقت معين بل هو يتناول كل الأوقات فوجب أن يجب عليه هذا الذكر في أي وقت حصل هذا التذكر وكل من قال وجب هذا الذكر قال: إنه إنما وجب لدفع الحنث وذلك يفيد المطلوب، واعلم أن استدلال ابن عباس رضي الله عنهما ظاهر في أن الاستثناء لا يجب أن يكون متصلاً، أما الفقهاء فقالوا إنا لو جوزنا ذلك لزم أن لا يستقر شيء من العقود، والإيمان، يحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفةرحمه الله خالف ابن عباس في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال أبو حنيفةرحمه الله : هذا يرجع عليك، فإنك تأخذ البيعة بالإيمان أتفرض أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن المنصور كلامه ورضي به. واعلم أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى تخصيص النص بالقياس وفيه ما فيه. وأيضاً فلو قال إن شاء الله على سبيل الخفية بلسانه بحيث لا يسمعه أحد فهو معتبر ودافع للحنث بالإجماع مع أن المحذور الذي ذكرتم حاصل فيه. فثبت أن الذي عولوا عليه ليس بقوي، والأولى أن يحتجوا في وجوب كون الاستثناء متصلاً بأن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد. قال تعالى: { { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } [المائدة: 1] وقال: { { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } [الإسراء: 34] فالآتي بالعهد يجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان متصلاً لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أن لفظ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً، فهو جار مجرى نصف اللفظ الواحدة، فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة، وعلى هذا التقدير فعند ذكر الاستثناء عرفنا أنه لم يلزم شيء بخلاف ما إذا كان الاستثناء متصلاً فإنه حصل الالتزام التام بالكلام فوجب عليه الوفاء بذلك الملتزم والقول الثاني أن قوله: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } لا تعلق له بما قبله بل هو كلام مستأنف وعلى هذا القول ففيه وجوه. أحدها: واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، والمراد منه الترغيب في الاهتمام بذكر هذه الكلمة. وثانيها: واذكر ربك إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي. وثالثها: حمله بعضهم على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها، وهذا القول بما فيه من الوجوه الثلاثة بعيد لأن تعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضية وجعله كلاماً مستأنفاً يوجب صيرورة الكلاء مبتدأ منقطعاً وذلك لا يجوز ثم قال تعالى: { وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا } وفيه وجوه: الأول: أن ترك قوله: { أَن يَشَاء ٱللَّهُ } ليس بحسن وذكره أحسن من تركه وقوله: { لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا } المراد منه ذكر هذه الجملة. الثاني: إذا وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول عسى أن يهديني ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به. والثالث: أن قوله: { لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا } إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والدلائل على صحة أني نبي من عند الله صادق القول في ادعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من نبأ أصحاب الكهف. وقد فعل الله ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك، وأما قوله تعالى: { وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ مِئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعًا * قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا } فاعلم أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف وفي قوله: { وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ } قولان: الأول: أن هذا حكاية كلام القوم والدليل عليه أنه تعالى قال: { سَيَقُولُونَ ثَلَـٰثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } وكذا إلى أن قال: { وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ } أي أن أولئك الأقوام قالوا ذلك ويؤكده أنه تعالى قال بعده: { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } وهذا يشبه الرد على الكلام المذكور قبله ويؤكده أيضاً ما روي في مصحف عبد الله: وقالوا ولبثوا في كهفهم. والقول الثاني: أن قوله: { وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ } هو كلام الله تعالى فإنه أخبر عن كمية تلك المدة، وأما قوله: { سَيَقُولُونَ ثَلَـٰثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } فهو كلام قد تقدم وقد تخلل بينه وبين هذه الآية ما يوجب انقطاع أحدهما عن الآخر وهو قوله: { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظَـٰهِرًا } وقوله: { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } لا يوجب أن ما قبله حكاية، وذلك لأنه تعالى أراد: { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب.

المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي ثلثمائة سنين بغير تنوين والباقون بالتنوين وذلك لأن قوله: { سِنِينَ } عطف بيان لقوله: { ثلثمائة } لأنه لما قال: { وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ } لم يعرف أنها أيام أم شهور أم سنون فلما قال سنين صار هذا بياناً لقوله: { ثلثمائة } فكان هذا عطف بيان له وقيل هو على التقديم والتأخير أي لبثوا سنين ثلثمائة. وأما وجه قراءة حمزة فهو أن الواجب في الإضافة ثلثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله: { { نُنَبّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً } [الكهف: 103].

المسألة الثالثة: قوله: { وَٱزْدَادُواْ تِسْعًا }؟ المعنى وازدادوا تسع سنين فإن قالوا: لم لم يقل ثلثمائة وتسع سنين؟ وما الفائدة في قوله { وَٱزْدَادُواْ تِسْعًا }؟ قلنا: قال بعضهم: كانت المدة ثلثمائة سنة من السنين الشمسية وثلثمائة وتسع سنين من القمرية، وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول، ويمكن أن يقال: لعلهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قرب أمرهم من الأنبياء ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين ثم قال: { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } معناه أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدة من الناس الذين اختلفوا فيها، وإنما كان أولى بأن يكون عالماً به لأنه موجد للسموات والأرض ومدبر للعالم، وإذا كان كذلك كان عالماً بغيب السموات والأرض فيكون عالماً بهذه الواقعة لا محالة ثم قال تعالى: { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } وهذه كلمة تذكر في التعجب، والمعنى ما أبصره وما أسمعه، وقد بالغنا في تفسير كلمة التعجب في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: { { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } [البقرة: 175] ثم قال تعالى: { مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ } وفيه وجوه. الأول: ما لأصحاب الكهف من دون الله من ولي فإنه هو الذي يتولى حفظهم في ذلك النوم الطويل. الثاني: ليس لهؤلاء المختلفين في مدة لبث أهل الكهف ولي من دون الله يتولى أمرهم ويقيم لهم تدبير أنفسهم فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير أعلامه. الثالث: أن بعض القوم لما ذكروا في هذا الباب أقوالاً على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب، فبين الله أنه ليس لهم من دونه ولي يمنع الله من إنزال العقاب عليهم. ثم قال: { وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا } والمعنى أنه تعالى لما حكم أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول قولاً بخلافه. والأصل أن الاثنين إذا كانا لشريكين فإن الاعتراض من كل واحد منهما على صاحبه يكثر ويصير ذلك مانعاً لكل واحد منهما من إمضاء الأمر على وفق ما يريده. وحاصله يرجع إلى قوله تعالى: { { لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22] فالله تعالى نفى ذلك عن نفسه بقوله تعالى: { وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا } وقرأ ابن عامر ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي والخطاب عطفاً على قوله: { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء } أو على قوله: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } والمعنى ولا تسأل أحداً عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف واقتصر على حكمه وبيانه ولا تشرك أحداً في طلب معرفة تلك الواقعة وقرأ الباقون بالياء والرفع على الخبر والمعنى أنه تعالى لا يفعل ذلك.

المسألة الرابعة: اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف وفي مكانهم، أما الزمان الذي حصلوا فيه، فقيل إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام وإن موسى ذكرهم في التوراة، ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم، وقيل: إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبر المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى عليه السلام وبين محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح، وحكى القفال هذا القول عن محمد بن إسحق. وقال قوم: إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة. وأما مكان هذا الكهف، فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف إلى الروم، قال: فوجه ملك الروم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه، قال: وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم، قال: فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم قال وعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره، ثم قال القفال: والذي عندنا لا يعرف أن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف أو موضع آخر، والذي أخبر الله عنه وجب القطع به ولا عبرة بقول أهل الروم إن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف، وذكر في الكشاف عن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس لك ذلك قد منع الله من هو خير منك، فقال: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً، فقال لابن عباس: لا أنتهي حتى أعلم حالهم، فبعث أناساً فقال لهم: اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأحرقتهم، وأقول العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال، وإنما يستفاد ذلك من نص، وذلك مفقود فثبت أنه لا سبيل إليه.

المسألة الخامسة: اعلم أن مدار القول بإثبات البعث والقيامة على أصول ثلاثة. أحدها: أنه تعالى قادر على كل الممكنات. والثاني: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات. وثالثها: أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات فإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث والقيامة، فكذلك ها هنا ثبت أنه تعالى عالم قادر على الكل، وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن فكذلك بقاؤه مدة ثلثمائة سنة يجب أن يكون ممكناً بمعنى أن إله العالم يحفظه ويصونه عن الآفة. وأما الفلاسفة فإنهم يقولون أيضاً: لا يبعد وقوع أشكال فلكية غريبة توجب في هيولي عالم الكون والفساد حصول أحوال غريبة نادرة، وأقول: هذه السور الثلاثة المتعاقبة اشتمل كل واحد منها على حصول حالة عجيبة نادرة في هذا العالم فسورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بجسد محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الشام وهو حالة عجيبة، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدة ثلثمائة سنة وأزيد وهو أيضاً حالة عجيبة، وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب وهو أيضاً حالة عجيبة. والمعتمد في بيان إمكان كل هذه العجائب والغرائب المذكورة في هذه السور الثلاثة المتوالية هو الطريقة التي ذكرناها. ومما يدل على أن هذا المعنى من الممكنات أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من كتاب الشفاء أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف، ثم قال أبو علي: ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف.