التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
٣٦
فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ
٣٧
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٨
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٣٩
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
٤٠
-مريم

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن قوله: { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ } فيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ المدنيون وأبو عمرو بفتح أن، ومعناه ولأنه ربي وربكم فاعبدوه، وقرأ الكوفيون وأبو عبيدة بالكسر على الابتداء، وفي حرف أبي { إِنَّ ٱللَّهَ } بالكسر من غير واو أي بسبب ذلك فاعبدوه.

المسألة الثانية: أنه لا يصح أن يقول الله: { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ } فلا بد وأن يكون قائل هذا غير الله تعالى، وفيه قولان: الأول: التقدير فقل يا محمد إن الله ربي وربكم بعد إظهار البراهين الباهرة في أن عيسى هو عبد الله. الثاني: قال أبو مسلم الأصفهاني: الواو في وإن الله عطف على قول عيسى عليه السلام: { { إِنّى عَبْدُ ٱللَّهِ ءاتَانِىَ الكتاب } [مريم: 30] كأنه قال: إني عبد الله وإنه ربي وربكم فاعبدوه، وقال وهب بن منبه عهد إليهم حين أخبرهم عن بعثه ومولده ونعته أن الله ربي وربكم أي كلنا عبيد الله تعالى.

المسألة الثالثة: قوله: { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ } يدل على أن مدبر الناس ومصلح أمورهم هو الله تعالى على خلاف قول المنجمين إن مدبر الناس ومصلح أمورهم في السعادة والشقاوة هي الكواكب ويدل أيضاً على أن الإله واحد لأن لفظ الله اسم علم له سبحانه فلما قال: { إِنَّ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ } أي لا رب للمخلوقات سوى الله تعالى وذلك يدل على التوحيد، أما قوله: { فَٱعْبُدُوهُ } فقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فههنا الأمر بالعبادة وقع مرتباً على ذكر وصف الربوبية فدل على أنه إنما تلزمنا عبادته سبحانه لكونه رباً لنا، وذلك يدل على أنه تعالى إنما تجب عبادته لكونه منعماً على الخلائق بأصول النعم وفروعها، ولذلك فإن إبراهيم عليه السلام لما منع أباه من عبادة الأوثان قال: { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً } يعني أنها لما لم تكن منعمة على العباد لم تجز عبادتها، وبهذه الآية ثبت أن الله تعالى لما كان رباً ومربياً لعباده وجب عبادته، فقد ثبت طرداً وعكساً تعلق العبادة بكون المعبود منعماً، أما قوله: { هَـٰذَا صِرٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ } يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم وأنه سمي هذا القول بالصراط المستقيم تشبيهاً بالطريق لأنه المؤدي إلى الجنة، أما قوله تعالى: { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } ففي الأحزاب أقوال: الأول: المراد فرق النصارى على ما بينا أقسامهم. الثاني: المراد النصارى واليهود فجعله بعضهم ولداً وبعضهم كذاباً. الثالث: المراد الكفار الداخل فيهم اليهود والنصارى والكفار الذين كانوا في زمن محمد صلى الله عليه وسلم وإذا قلنا المراد بقوله: { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ } أي قل يا محمد إن الله ربي وربكم، فهذا القول أظهر لأنه لا تخصيص فيه، وكذا قوله: { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } مؤكد لهذا الاحتمال، وأما قوله: { مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } فالمشهد إما أن يكون هو الشهود وما يتعلق به أو الشهادة وما يتعلق بها. أما الأول: فيحتمل أن يكون المراد من المشهد نفس شهودهم هول الحساب، والجزاء في القيامة أو مكان الشهود فيه وهو الموقف، أو وقت الشهود، وأما الشهادة فيحتمل أن يكون المراد شهادة الملائكة والأنبياء وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال، وأن يكون مكان الشهادة أو وقتها، وقيل: هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه، وإنما وصف ذلك المشهد بأنه عظيم لأنه لا شيء أعظم مما يشاهد في ذلك اليوم من محاسبة ومساءلة، ولا شيء من المنافع أعظم مما هنالك من الثواب ولا بد من المضار أعظم مما هنالك من العقاب، أما قوله تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قالوا: التعجب هو استعظام الشيء مع الجهل بسبب عظمه، ثم يجوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير أن يكون للعظم سبب حصول، قال الفراء قال سفيان: قرأت عند شريح: { { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ } [الصافات: 12] فقال: إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: إن شريحاً شاعر يعجبه علمه، وعبد الله أعلم بذلك منه قرأها: { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ } ومعناه أنه صدر من الله تعالى فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم، وبهذا التأويل يضاف المكر والاستهزاء إلى الله تعالى، وإذا عرفت هذا فنقول: للتعجب صفتان: إحداهما: ما أفعله. والثانية: أفعل به كقوله تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } والنحويون ذكروا له تأويلات: الأول: قالوا: أكرم بزيد أصله أكرم زيد أي صار ذا كرم كأغد البعير أي صار ذا غدة إلا أنه خرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر كما خرج على لفظ الخبر ما معناه الأمر كقوله تعالى: { { وَٱلْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } [البقرة: 228]، { { وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ } [البقرة: 233]، { { قُلْ مَن كَانَ فِى ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } [مريم: 75] أي يمد له الرحمن مداً، وكذا قولهم:رحمه الله خبر وإن كان معناه الدعاء والباء زائدة. الثاني: أن يقال إنه أمر لكل أحد بأن يجعل زيداً كريماً أي بأن يصفه بالكرم، والباء زائدة مثل قوله: { { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [البقرة: 195] ولقد سمعت لبعض الأدباء فيه تأويلاً. ثالثاً: وهو أن قولك أكرم بزيد يفيد أن زيداً بلغ في الكرم إلى حيث كأنه في ذاته صار كرماً حتى لو أردت جعل غيره كريماً فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك، كما أن من قال: أكتب بالقلم فمعناه أن القلم هو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك.

المسألة الثانية: قوله { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } فيه ثلاثة أوجه. أحدها: وهو المشهور الأقوى أن معناه ما أسمعهم وما أبصرهم والتعجب على الله تعالى محال كما تقدم، وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صماً وعمياً في الدنيا، وقيل: معناه التهديد مما سيسمعون وسيبصرون مما يسوء بصرهم ويصدع قلوبهم. وثانيها: قال القاضي ويحتمل أن يكون المراد أسمع هؤلاء وأبصرهم أي عرفهم حال القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا. وثالثها: قال الجبائي: ويجوز أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم بهم ليعرفوا أمرهم وسوء عاقبتهم فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم أما قوله: { لَـٰكِنِ ٱلظَّـٰلِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } ففيه قولان: الأول: لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وفي الآخرة يعرفون الحق. والثاني: { لَـٰكِنِ ٱلظَّـٰلِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } وهم في الآخرة في ضلال عن الجنة بخلاف المؤمنين، وأما قوله تعالى: { وَأَنذِرْهُمْ } فلا شبهة في أنه أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن ينذر من في زمانه فيصلح بأن يجعل هذا كالدلالة على أن قوله فاختلف الأحزاب أراد به اختلاف جميعهم في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأما الإنذار فهو التخويف من العذاب لكي يحذروا من ترك عبادة الله تعالى وأما يوم الحسرة فلا شبهة في أنه يوم القيامة من حيث يكثر التحسر من أهل النار وقيل يتحسر أيضاً في الجنة إذا لم يكن من السابقين الواصلين إلى الدرجات العالية والأول هو الصحيح لأن الحسرة غم وذلك لا يليق بأهل الثواب، أما قوله تعالى: { إِذْ قُضِىَ ٱلأَمْرُ } ففيه وجوه: أحدها: إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمرالثواب والعقاب. وثانيها: إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف والأول أقرب لقوله: { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } فكأنه تعالى بين أنه ظهرت الحجج والبينات وهم في غفلة وهم لا يؤمنون. وثالثها: روي أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: قضى الأمر: " فقال حين يجاء بالموت في صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً على فرح وأهل النار غماً على غم " واعلم أن الموت عرض فلا يجوز أن يصير جسماً حيوانياً بل المراد أنه لا موت ألبتة بعد ذلك وأما قوله: { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } أي عن ذلك اليوم وعن كيفية حسرته وهم لا يؤمنون أي بذلك اليوم ثم قال بعده: { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } أي هذه الأمور تؤول إلى أن لا يملك الضر والنفع إلا الله تعالى: { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } أي إلى محل حكمنا وقضائنا لأنه تعالى منزه عن المكان حتى يكون الرجوع إليه وهذا تخويف عظيم وزجر بليغ للعصاة.