التفاسير

< >
عرض

إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ
١٦٦
وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ
١٦٧
-البقرة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتخذ من دون الله أنداداً بقوله: { وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ } [البقرة: 165] على طريق التهديد زاد في هذا الوعيد بقوله تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ } فبين أن الذين أفنوا عمرهم على عبادتهم واعتقدوا أنهم أوكد أسباب نجاتهم فإنهم يتبرأون منهم عند احتياجهم إليهم ونظيره قوله تعالى: { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [العنكبوت: 25] وقال أيضاً: { ٱلأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67] وقال: { { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [الأعراف: 38] وحكى عن إبليس أنه قال: { { إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } [إبراهيم: ‌‌22] وههنا مسائل:

المسألة الأولى: في قوله: { إِذْ تَبَرَّأَ } قولان، الأول: أنه بدل من: { { إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ } [البقرة: 165]. الثاني: أن عامل الإعراب في (إذ) معنى شديد كأنه قال: هو شديد العذاب إذ تبرأ يعني في وقت التبرؤ.

المسألة الثانية: معنى الآية أن المتبوعين يتبرؤن من الأتباع ذلك اليوم فبين تعالى ما لأجله يتبرؤن منهم وهو عجزهم عن تخليصهم من العذاب الذي رأوه لأن قوله: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } يدخل في معناه أنهم لم يجدوا إلى تخليص أنفسهم وأتباعهم سبباً، والآيس من كل وجه يرجو به الخلاص مما نزل به وبأوليائه من البلاء يوصف بأنه تقطعت به الأسباب واختلفوا في المراد بهؤلاء المتبوعين على وجوه. أحدها: أنهم السادة والرؤساء من مشركي الإنس، عن قتادة والربيع وعطاء. وثانيها: أنهم شياطين الجن الذين صاروا متبوعين للكفار بالوسوسة عن السدي. وثالثها: أنهم شياطين الجن والإنس. ورابعها: الأوثان الذين كانوا يسمونها بالآلهة والأقرب هو الأول لأن الأقرب في الذين اتبعوا أنهم الذين يصح منهم الأمر والنهي حتى يمكن أن يتبعوا وذلك لا يليق بالأصنام، ويجب أيضاً حملهم على السادة من الناس لأنهم الذين يصح وصفهم من عظمهم بأنهم يحبونهم كحب الله دون الشياطين ويؤكده قوله تعالى: { { إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } [الأحزاب: 67]، وقرأ مجاهد الأول على البناء للفاعل، والثاني على البناء للمفعول أي تبرأ الاتباع من الرؤساء.

المسألة الثالثة: ذكروا في تفسير التبرؤ وجوهاً. أحدها: أن يقع منهم ذلك بالقول. وثانيها: أن يكون نزول العذاب بهم، وعجزهم عن دفعهم عن أنفسهم فكيف عن غيرهم فتبرؤا. وثالثها: أنه ظهر فيهم الندم على ما كان منهم من الكفر بالله والإعراض عن أنبيائه ورسله فسمي ذلك الندم تبرؤا والأقرب هو الأول، لأنه هو الحقيقة في اللفظ.

أما قوله تعالى: { وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } الواو للحال، أي يتبرؤون في حال رؤيتهم العذاب وهذا أولى من سائر الأقوال، لأن في تلك الحالة يزداد الهول والخوف.

أما قوله تعالى: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: أنه عطف على { تبرأ } وذكروا في تفسير الأسباب سبعة أقوال. الأول: أنها المواصلات التي كانوا يتواصلان عليها، عن مجاهد وقتادة والربيع. الثاني: الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها عن ابن عباس وابن جريج. الثالث: الأعمال التي كانوا يلزمونها عن ابن زيد والسدي. والرابع: العهود والحلف التي كانت بينهم يتوادون عليها، عن ابن عباس. الخامس: ما كانوا يتواصلون به من الكفر وكان بها انقطاعهم عن الأصم. السادس: المنازل التي كانت لهم في الدنيا عن الضحاك والربيع بن أنس. السابع: أسباب النجاة تقطعت عنهم والأظهر دخول الكل فيه، لأن ذلك كالنفي فيعم الكل فكأنه قال: وزال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به وأنهم لا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة وسبب ونسب وخلف وعقد وعهد، وذلك نهاية ما يكون من اليأس فحصل فيه التوكيد العظيم في الزجر.

المسألة الثانية: الباء في قوله تعالى: { بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } بمعنى (عن) كقوله تعالى: { { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان: 59] أي عنه قال علقمة بن عبدة:

فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب

أي عن النساء.

المسألة الثالثة: أصل السبب في اللغة الحبل قالوا: ولا يدعى الحبل سبباً حتى ينزل ويصعد به، ومنه قوله تعالى: { { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَاءِ } [الحج: 15] ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها سبب. يقال: ما بيني وبينك سبب أي رحم ومودة، وقيل للطريق: سبب لأنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريدها، قال تعالى: { { فَأَتْبَعَ سَبَباً } [الكهف: 85] أي طريقاً، وأسباب السموات: أبوابها لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها، قال تعالى مخبراً عن فرعون: { لَّعَـلّى أَبْلُغُ ٱلأَسْبَـٰبَ * أَسْبَـٰبَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ } [غافر: 36، 37] قال زهير:

ومن هاب أسباب المنايا تناله ولو رام أسباب السماء بسلم

والمودة بين القوم تسمى سبباً لأنهم بها يتواصلون.

أما قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تبرؤا مِنَّا } فذلك تمن منهم لأن يتمكنوا من الرجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف فيكون الاختيار إليهم حتى يتبرؤن منهم في الدنيا كما تبرؤا منهم يوم القيامة، ومفهوم الكلام أنهم تمنوا لهم في الدنيا ما يقارب العذاب فيتبرؤن منهم ولا يخلصونهم ولا ينصرونهم كما فعلوا بهم يوم القيامة وتقديره: فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم وقد دهمهم مثل هذا الخطب كما تبرؤا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرأ منهم مع سلامة فليس فيه فائدة.

أما قوله: { كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَـٰلَهُمْ حَسَرٰتٍ عَلَيْهِمْ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: في قوله: { كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ } وجهان. الأول: كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات وذلك لانقطاع الرجاء من كل أحد. الثاني: كما أراهم العذاب يريهم الله أعمالهم حسرات، لأنهم أيقنوا بالهلاك.

المسألة الثانية: في المراد بالأعمال أقوال. الأول: الطاعات يتحسرون لم ضيعوها عن السدي. الثاني: المعاصي وأعمالهم الخبيثة عن الربيع وابن زيد يتحسرون لم عملوها. الثالث: ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر عن الأصم. الرابع: أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم، والظاهر أن المراد الأعمال التي اتبعوا فيها السادة، وهو كفرهم ومعاصيهم، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم، وأيقنوا بالجزاء عليها، وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات، وفي هذا الوجه الإضافة حقيقية لأنهم عملوها، وفي الثاني مجاز بمعنى لزمهم فلم يقوموا به.

المسألة الثالثة: حسرات ثالث مفاعيل: رأى.

المسألة الرابعة: قال الزجاج: الحسرة شدة الندامة حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب، وهو الذي لا منفعة فيه، يقال: حسر فلان يحسر حسرة وحسراً إذا اشتد ندمه على أمر فاته، وأصل الحسر الكشف، يقال: حسر عن ذراعيه أي كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة، والحسور: الإعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر، قال تعالى: { { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } [الأنبياء: 19] والمحسرة المكنسة لأنها تكشف عن الأرض، والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش.

أما قوله تعالى: { وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ } فقد احتج به الأصحاب على أن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة يخرجون من النار فقالوا: إن قوله { وَمَا هُمْ } تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصاً بهم، وهذه الآية تكشف عن المراد بقوله: { { وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدّينِ * وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ } [الانفطار: 14 ـ 16] وثبت أن المراد بالفجار ههنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه.