التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
٢
-البقرة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

قوله تعالى: { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لقائل أن يقول: المشار إليه ههنا حاضر، و «ذلك» اسم مبهم يشار به إلى البعيد، والجواب عنه من وجهين: الأول: لا نسلم أن المشار إليه حاضر، وبيانه من وجوه: أحدها: ما قاله الأصم: وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة، وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد، فقوله: { ذٰلِكَ } إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة، وقد يسمى بعض القرآن قرآناً، قال الله تعالى: { { وَإِذَا قُرِىء ٱلْقُرْءانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ } [الأعراف: 204] وقال حاكياً عن الجن { { إنا سمعنا قرآناً عجباً } [الجن: 1] وقوله: { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـٰباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } [الأحقاف: 30] وهم ما سمعوا إلا البعض، وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت، وثانيها: أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي، وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه، ويؤيده قوله: { { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [المزمل: 5] وهذا في سورة المزمل، وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث، وثالثها: أنه تعالى خاطب بني إسرائيل، لأن سورة البقرة مدنية، وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل، وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما السلام أن الله يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وينزل عليه كتاباً فقال تعالى: { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن الله تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل، ورابعها: أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله: { { وَإِنَّهُ فِى أُمّ ٱلْكِتَـٰبِ لَدَيْنَا } [الزخرف: 4] وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك، فغير ممتنع أن يقول تعالى: { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ. وخامسها: أنه وقعت الإشارة بذلك إلى «ألم» بعد ما سبق التكلم به وانقضى، والمنقضى في حكم المتباعد، وسادسها: أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك ـ وقد أعطيته شيئاً ـ احتفظ بذلك. وسابعها: أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها ـ والقرآن وإن كان حاضراً نظراً إلى صورته لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه ـ فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب.

«ذلك» يشار بها للقريب والبعيد:

المقام الثاني: سلمنا أن المشار إليه حاضر، لكن لا نسلم أن لفظة «ذلك» لا يشار بها إلا إلى البعيد، بيانه أن ذلك، وهذا حرفاً إشارة، وأصلهما «ذا»؛ لأنه حرف للإشارة، قال تعالى: { { مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [البقرة: 245] ومعنى «ها» تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي تنبه أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه، وقد تدخل الكاف على «ذا» للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل: «ذلك» فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه، فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيدالبعد في أصل الوضع، بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها، فصارت كالدابة، فإنها مختصة في العرف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض، وإذا ثبت هذا فنقول: إنا نحمله ههنا على مقتضى الوضع اللغوي، لا على مقتضى الوضع. العرفي وحينئذٍ لا يفيد البعد؛ ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر قال تعالى: { { وَٱذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرٰهِيمَ وَإِسْحَـٰقَ } [صۤ: 45] إلى قوله - { { وَكُلٌّ مّنَ ٱلأخْيَارِ } [صۤ: 48] ثم قال: { { هَـٰذَا ذِكْرُ } [الأنبياء: 24] وقال: { { وَعِندَهُمْ قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [صۤ: 52 - 53] وقال: { { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [قۤ: 19] وقال: { { فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلأَخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىٰ } [النازعات: 25- 26] وقال: { { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذّكْرِ أَنَّ ٱلأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّـٰلِحُونَ } [الأنبياء: 105] ثم قال: { { إِنَّ فِى هَـٰذَا لَبَلَـٰغاً لّقَوْمٍ عَـٰبِدِينَ } [الأنبياء: 106] وقال: { { فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذٰلِكَ يَحْيَىٰ ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة: 73] أي هكذا يحيـى الله الموتى، وقال: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 17] أي ما هذه التي بيمينك والله أعلم.

المسألة الثانية: لقائل أن يقول: لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث، وهو السورة، الجواب: لا نسلم أن المشار إليه مؤنث؛ لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم، والأول باطل، لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث، وأما الاسم فهو (آلم) وهو ليس بمؤنث، نعم ذلك المسمى له اسم آخر ـ وهو السورة ـ وهو مؤنث، لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو (آلم)، لا الذي هو مؤنث وهو السورة.

مدلول لفظ «كتاب»:

المسألة الثالثة: اعلم أن أسماء القرآن كثيرة: أحدها: الكتاب وهو مصدر كالقيام والصيام وقيل: فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس، واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال: { { كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ } [صۤ: 29] والكتاب جاء في القرآن على وجوه: أحدها: الفرض { { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ } [البقرة: 178] { { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ } [البقرة: 183] { { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } [النساء: 103] وثانيها: الحجة والبرهان { { فَأْتُواْ بِكِتَـٰبِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } [الصافات: 157] أي برهانكم. وثالثها: الأجل { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَـٰبٌ مَّعْلُومٌ } [الحجر: 4] أي أجل. ورابعها: بمعنى مكاتبة السيد عبده { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـٰبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } [النور: 33] وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة، واشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته، وسميت الكتيبة لاجتماعها، فسمي الكتاب كتاباً لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات، أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم، أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق.

اشتقاق لفظ «قرآن»:

وثانيها: القرآن { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ } [الإسراء: 88] { إِنَّا جَعَلْنَـٰهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً } [الزخرف: 3] { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } [البقرة: 185]. { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] وللمفسرين فيه قولان: أحدهما: قول ابن عباس أن القرآن والقراءة واحد، كالخسران والخسارة واحد، والدليل عليه قوله: { { فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ فَٱتَّبِعْ قُرْءانَهُ } [القيامة: 18] أي تلاوته، أي إذا تلوناه عليك فاتبع تلاوته: الثاني: وهو قول قتادة أنه مصدر من قول القائل: قرأت الماء في الحوض إذا جمعته، وقال سفيان بن عيينة: سمي القرآن قرآناً لأن الحروف جمعت فصارت كلمات، والكلمات جمعت فصارت آيات، والآيات جمعت فصارت سوراً، والسور جمعت فصارت قرآناً، ثم جمع فيه علوم الأولين والآخرين. فالحاصل أن اشتقاق لفظ القرآن إما من التلاوة أو من الجمعية.

معنى الفرقان:

وثالثها: الفرقان { { تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ } [الفرقان: 1]. { { وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ } [البقرة: 185] واختلفوا في تفسيره، فقيل: سمي بذلك لأن نزوله كان متفرقاً أنزله في نيف وعشرين سنة، ودليله قوله تعالى: { { وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَـٰهُ تَنْزِيلاً } [الإسراء: 106] ونزلت سائر الكتب جملة واحدة، ووجه الحكمة فيه ذكرناه في سورة الفرقان في قوله تعالى: { { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءانُ جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك } [الفرقان: 32] وقيل: سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والمجمل والمبين، والمحكم والمؤول، وقيل: الفرقان هو النجاة، وهو قول عكرمة والسدي، وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة، وعليه حمل المفسرون قوله: { { وَإِذْ آتينا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ْ } [البقرة: 53].

معنى تسميته بالذكر:

ورابعها: الذكر، والتذكرة، والذكرى، أما الذكر فقوله: { { وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَـٰهُ } [الأنبياء: 50] { { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ } [الحجر: 9]. { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف: 44] وفيه وجهان: أحدهما: أنه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه وأوامره. والثاني: أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به، وأنه شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمته، وأما التذكرة فقوله: { { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ } [الحاقة: 48] وأما الذكرى فقوله تعالى: { { وَذَكّرْ فَإِنَّ ٱلذّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 55].

تسميته تنزيلاً وحديثاً:

وخامسها: التنزيل { { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأمِينُ } [الشعراء: 192 - 193].

وسادسها: الحديث { { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً } [الزمر: 23] سماه حديثاً؛ لأن وصوله إليك حديث، ولأنه تعالى شبهه بما يتحدث به، فإن الله خاطب به المكلفين.

وسابعها: الموعظة { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ } [يونس: 57] وهو في الحقيقة موعظة لأن القائل هو الله تعالى، والآخذ جبريل، والمستملي محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف لا تقع به الموعظة.

تسميته بالحكم والحكمة:

وثامنها: الحكم، والحكمة، والحكيم، والمحكم، أما الحكم فقوله: { { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا } [الرعد: 37] وأما الحكمة فقوله: { { حِكْمَةٌ بَـٰلِغَةٌ } [القمر: 5] { { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْــمَةِ } [الأحزاب: 34] وأما الحكيم فقوله: { { يس وَٱلْقُرْءانِ ٱلْحَكِيمِ } [يۤس: 1- 2] وأما المحكم فقوله: { { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـٰتُهُ } [هود: 1].

معنى الحكمة:

واختلفوا في معنى الحكمة، فقال الخليل: هو مأخوذ من الإحكام والإلزام، وقال المؤرخ: هو مأخوذ من حكمة اللجام؛ لأنها تضبط الدابة، والحكمة تمنع من السفه.

وتاسعها: الشفاء { { وَنُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } [الإسراء: 82] وقوله:{ وَشِفَاء لِمَا فِى ٱلصُّدُورِ } وفيه وجهان: أحدهما: أنه شفاء من الأمراض. والثاني: أنه شفاء من مرض الكفر، لأنه تعالى وصف الكفر والشك بالمرض، فقال: { { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [البقرة: 10] وبالقرآن يزول كل شك عن القلب، فصح وصفه بأنه شفاء.

كونه هدي وهادياً:

وعاشرها: الهدى، والهادي: أما الهدى فلقوله: { { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2]. { { هُدًى لّلنَّاسِ } [آل عمران: 4، الأنعام: 91]. { { وَشِفَاء لِمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 57] وأما الهادي { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] وقالت الجن: { { إِنا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَبَاً يَهْدِى إِلَى ٱلرُّشْدِ } [الجن: 1، 2].

الحادي عشر: الصراط المستقيم: قال ابن عباس في تفسيره: إنه القرآن، وقال: { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ }.

والثاني عشر: الحبل: { { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } [آل عمران: 103] في التفسير: إنه القرآن، وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة ونكال الدنيا، كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك، ومن ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم عصمة فقال: "إن هذا القرآن عصمة لمن اعتصم به" لأنه يعصم الناس من المعاصي.

الثالث عشر: الرحمة { وَنُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } [الإسراء: 88] وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات.

تسميته بالروح:

الرابع عشر: الروح { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52]. { { يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } [النحل: 2] وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح، وسمي جبريل بالروح { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } [مريم: 17] وعيسى بالروح { أَلْقَـٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ } [النساء: 171].

الخامس عشر: القصص { { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَص } ِ } [يوسف: 3] سمي به لأنه يجب اتباعه { { وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصّيهِ } [القصص: 11] أي اتبعي أثره؛ أو لأن القرآن يتتبع قصص المتقدمين، ومنه قوله تعالى: { { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ } [آل عمران: 62].

السادس عشر: البيان، والتبيان، والمبين: أما البيان فقوله: { { هَـٰذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ } [آل عمران: 138] والتبيان فهو قوله: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } [النحل: 89] وأما المبين فقوله: { { تِلْكَ ءايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ } [يوسف: 1].

السابع عشر: البصائر { { هَـٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } [الأعراف: 203] أي هي أدلة يبصر بها الحق تشبيهاً بالبصر الذي يرى طريق الخلاص.

الثامن عشر: الفصل { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِٱلْهَزْل } ِ } [الطارق: 13- 14] واختلفوا فيه، فقيل معناه القضاء، لأن الله تعالى يقضي به بين الناس بالحق قيل لأنه يفصل بين الناس يوم القيامة فيهدي قوماً إلى الجنة ويسوق آخرين إلى النار، فمن جعله إمامه في الدنيا قاده إلى الجنة، ومن جعله وراءه ساقه إلى النار.

تسميته بالنجوم:

التاسع عشر: النجوم { { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوٰقِعِ ٱلنُّجُوم } ِ } [الواقعة: 75] { { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } [النجم: 1] لأنه نزل نجماً نجماً.

العشرون: المثاني: { مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [الزمر: 23] قيل لأنه ثنى فيه القصص والأخبار.

تسميه القرآن نعمة وبرهانا:

الحادي والعشرون: النعمة: { { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } [الضحى: 11] قال ابن عباس يعني به القرآن.

الثاني والعشرون: البرهان { قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ } [النساء: 174] وكيف لا يكون برهاناً وقد عجزت الفصحاء عن أن يأتوا بمثله.

الثالث والعشرون: البشير والنذير، وبهذا الاسم وقعت المشاركة بينه وبين الأنبياء قال تعالى في صفة الرسل: { { مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } [النساء: 165- الأنعام: 48] وقال في صفة محمد صلى الله عليه وسلم: { { إِنَّا أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً } [الفتح: 8] وقال في صفة القرآن في حۤم السجدة { { بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ } [فصلت: 4] يعني مبشراً بالجنة لمن أطاع وبالنار منذراً لمن عصى، ومن ههنا نذكر الأسماء المشتركة بين الله تعالى وبين القرآن.

تسميته قيماً:

الرابع والعشرون: القيم { قِيمَاً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } [الكهف: 2] والدين أيضاً قيم { ذٰلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ } [التوبة: 36] والله سبحانه هو القيوم { { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ } [البقرة: 255- آل عمران: 2] وإنما سمي قيماً لأنه قائم بذاته في البيان والإفادة.

الخامس والعشرون: المهيمن { { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [المائدة: 48] وهو مأخوذ من الأمين، وإنما وصف به لأنه من تمسك بالقرآن أمن الضرر في الدنيا والآخرة، والرب المهيمن أنزل الكتاب المهيمن على النبي الأمين لأجل قوم هم أمناء الله تعالى على خلقه كما قال: { { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاس } [البقرة: 143].

السادس والعشرون: الهادي { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] وقال: { { يَهْدِى إِلَى ٱلرُّشْدِ } [الجن: 2] والله تعالى هو الهادي لأنه جاء في الخبر «النور الهادي».

تسميته نوراً:

السابع والعشرون: النور { { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [النور: 35] وفي القرآن { { وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ } [الأعراف: 157] يعني القرآن وسمي الرسول نوراً { { قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَـٰبٌ مُّبِين } ٌ } [المائدة: 15] يعني محمد وسمي دينه نوراً { { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ } [الصف: 8] وسمي بيانه نوراً { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ } [الزمر: 22] وسمي التوراة نوراً { { إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [المائدة: 44] وسمي الإنجيل نوراً { وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور } [المائدة: 46] وسمي الإيمان نوراً { يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِم } ْ } [الحديد: 12].

الثامن والعشرون: الحق: ورد في الأسماء «الباعث الشهيد الحق» والقرآن حق { { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِين } ِ } [الحاقة: 51] فسماه الله حقاً؛ لأنه ضد الباطل فيزيل الباطل كما قال: { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقّ عَلَى ٱلْبَـٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [الأنبياء: 18] أي ذاهب زائل.

التاسع والعشرون: العزيز { { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } [الشعراء: 9] وفي صفة القرآن { { وَإِنَّهُ لَكِتَـٰبٌ عَزِيزٌ } [فصلت: 41] والنبي عزيز { { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ } [التوبة: 128] والأمة عزيزة { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون: 8] فرب عزيز أنزل كتاباً عزيزاً على نبي عزيز لأمة عزيزة، وللعزيز معنيان: أحدهما: القاهر، والقرآن كذلك؛ لأنه هو الذي قهر الأعداء وامتنع على من أراد معارضته. والثاني: أن لا يوجد مثله.

تسمية القرآن بالكريم:

الثلاثون: الكريم { إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كريم فِى كِتَـٰبٍ مَّكْنُون } ٍ }[الواقعة: 77] واعلم أنه تعالى سمى سبعة أشياء بالكريم { { مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ٱلْكَرِيمِ } [الانفطار: 6] إذ لا جواد إجود منه، والقرآن بالكريم، لأنه لا يستفاد من كتاب من الحكم والعلوم ما يستفاد منه، وسمى موسى كريماً { وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } [الدخان: 17] وسمي ثواب الأعمال كريماً { فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } [يۤس: 11] وسمي عرشه كريماً { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } [النمل: 26] لأنه منزل الرحمة، وسمى جبريل كريماً { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [التكوير: 19] ومعناه أنه عزيز، وسمى كتاب سليمان كريماً { إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [النمل: 29] فهو كتاب كريم من رب كريم نزل به ملك كريم على نبي كريم لأجل أمة كريمة، فإذا تمسكوا به نالوا ثواباً كريماً.

ومن أسمائه «العظيم»:

الحادي والثلاثون: العظيم: { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْءَانَ ٱلْعَظِيم } َ } [الحجر: 87] اعلم أنه تعالى سمى نفسه عظيماً فقال: { وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيم } ُ } [البقرة: 255] وعرشه عظيماً { { وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } [التوبة: 129] وكتابه عظيماً { والقرآن العظيم } [الحجر: 87] ويوم القيامة عظيماً { لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [المطففين: 5 - 6] والزلزلة عظيم { { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم } ٍ } [القلم: 4] والعلم عظيماً { { وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء: 113] وكيد النساء عظيماً { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف: 28] وسحر سحرة فرعون عظيماً { وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف: 116] وسمي نفس الثواب عظيماً { { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [الفتح: 29] وسمى عقاب المنافقين عظيماً { { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [البقرة: 7].

ومنها المبارك:

الثاني والثلاثون: المبارك: { { وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَك } ٌ } [الأنبياء: 50] وسمى الله تعالى به أشياء، فسمي الموضع الذي كلم فيه موسى عليه السلام مباركاً { { فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ } [القصص: 30] وسمى شجرة الزيتون مباركة { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } [التوبة: 35] لكثرة منافعها، وسمي عيسى مباركاً { { وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً } [مريم: 31] وسمى المطر مباركاً { { وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء مُّبَـٰرَكاً } [قۤ: 9] لما فيه من المنافع، وسمي ليلة القدر مباركة { { إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } [الدخان: 3] فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبي مبارك لأمة مباركة.

اتصال «ألم» بقوله «ذلك الكتاب»:

المسألة الرابعة: في بيان اتصال قوله: { ألم } بقوله: { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } قال صاحب الكشاف: إن جعلت { ألم } اسماً للسورة ففي التأليف وجوه:

الأول: أن يكون { ألم } مبتدأ و { ذٰلِكَ } مبتدأ ثانياً و { ٱلْكِتَـٰبِ } خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وإنه الذي يستأهل أن يكون كتاباً كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال، وأن يكون الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون { ألم } خبر مبتدأ محذوف أي هذه { ألم } وَيَكُونَ { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } خبراً ثانياً أو بدلاً على أن الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك، وأن تكون هذه { الم } جملة و { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } جملة أخرى وإن جعلت { الم } بمنزلة الصوت كان { ذٰلِكَ } مبتدأ وخبره { ٱلْكِتَـٰبِ } أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو الكتاب صفة والخبر ما بعده أو قدر مبتدأ محذوف، أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرأ عبد الله { { الم تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [السجدة: 2] وتأليف هذا ظاهر.

تفسير قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ }:

قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } فيه مسألتان:

المسألة الأولى: الريب قريب من الشك،. وفيه زيادة، كأنه ظن سوء تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء، ومنها قوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" فإن قيل: قد يستعمل الريب في قولهم: «ريب الدهر» و «ريب الزمان» أي حوادثه قال الله تعالى: { { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } [الطور: 30] ويستعمل أيضاً في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر:

قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوفا

قلنا: هذان قد يرجعان إلى معنى الشك، لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شبهة في صحته، ولا في كونه من عند الله، ولا في كونه معجزاً. ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله: { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } [البقرة: 23] وها هنا سؤالان: السؤال الأول: طعن بعض الملحدة فيه فقال: إن عني أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عنى أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه. الجواب: المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه. السؤال الثاني: لم قال ههنا: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } وفي موضع آخر { { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [الصافات: 47]؟ الجواب: لأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وههنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت: لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً آخر حصل الريب فيه لا ها هنا، كما قصد في قوله: { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا السؤال الثالث: من أين يدل قوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } على نفي الريب بالكلية؟ الجواب: قرأ أبو الشعثاء { لاَ رَيْبَ فِيهِ } بالرفع. واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدليل عليه أن قوله: { لاَ رَيْبَ } نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، وذلك يناقض نفي الماهية، ولهذا السر كان قولنا: «لا إله إلا الله» نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى. وأما قولنا: «لا ريب فيه» بالرفع فهو نقيض لقولنا: «ريب فيه» وهو يفيد ثبوت فرد واحد، فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض.

الوقف على «فيه»:

المسألة الثانية: الوقف على { فِيهِ } هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على { لاَ رَيْبَ } ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله: { { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ } [الشعراء: 50] وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز؛ والتقدير: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } { فِيهِ هُدًى }. واعلم أن القراءة الأولى أولى؛ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم.

حقيقة الهدى:

قوله تعالى: { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } فيه مسائل:

المسألة الأولى: في حقيقة الهدى: الهدى عبارة عن الدلالة، وقال صاحب (الكشاف): الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية، وقال آخرون: الهدى هو الاهتداء والعلم. والذي يدل على صحة القول الأول وفساد القول الثاني والثالث أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء، لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهدتاء محال، لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى: { { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت: 17] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء، ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال: هديته فلم يهتد، وذلك يدل على قولنا، واحتج صاحب الكشاف بأمور ثلاثة: أولها: وقوع الضلالة في مقابلة الهدى، قال تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 16] وقال: { { لَعَلَىٰ هُدًى أوفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } [سبأ: 24] وثانيها: يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً لاحتمال أنه هدى فلم يهتد وثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى يقال: هديته فاهتدى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع فكما أن الإنكسار والانقطاع لا زمان للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى. والجواب عن الأول: أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال، فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع، وعن الثاني: أن المنتفع بالهدى سمي مهدياً، وغير منتفع به لا يسمى مهدياً؛ ولأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم. وعن الثالث: أن الائتمار مطاوع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمراً حصول الائتمار، فكذا هذا لا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضياً إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد، ومما يدل على فساد قول من قال الهدى هو العلم خاصة أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدل على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.

معنى المتقي:

المسألة الثانية: المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية فرط الصيانة، إذا عرفت هذا فنقول: إن الله تعالى ذكر المتقي ههنا في معرض المدح، ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقياً في أمور الدنيا، بل بأن يكون متقياً فيما يتصل بالدين، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات محترزاً عن المحظورات. واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى؟ فقال بعضهم: يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد، وقال آخرون: لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟ فروي عنه عليه السلام أنه قال: "لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس" وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه. واعلم أن التقوى هي الخشية، قال في أول النساء: { { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } [النساء: 1] ومثله في أول الحج، وفي الشعراء { { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } [هود: 106] يعني ألا تخشون الله، وكذلك قال هود وصالح، ولوط، وشعيب لقومهم، وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } [نوح: 3] يعني اخشوه، وكذا قوله: { { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102] { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } [البقرة: 197] { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } [البقرة: 48] واعلم أن حقيقة التقوى وإن كانت هي التي ذكرناها إلا أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة، والتوبة أخرى، والطاعة ثالثة، وترك المعصية رابعاً: والإخلاص خامساً: أما الإيمان فقوله تعالى: { { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } [الفتح: 26] أي التوحيد { { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } [الحجرات: 3] وفي الشعراء { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ } [الشعراء: 11] أي ألا يؤمنون وأما التوبة فقوله: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ } [الأعراف: 96] أي تابوا، وأما الطاعة فقوله في النحل: { أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱتَّقُونِ } [النحل: 2] وفيه أيضاً: { { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ } [النحل: 52] وفي المؤمنين { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ } [المؤمنون: 52] وأما ترك المعصية فقوله: { { وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰبِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [البقرة: 189] أي فلا تعصوه، وأما الإخلاص فقوله في الحج: { { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } [الحج: 32] أي من إخلاص القلوب، فكذا قوله: { { وَإِيَّـٰىَ فَٱتَّقُونِ } [البقرة: 41] واعلم أن مقام التقوى مقام شريف قال تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [النحل: 128] وقال: { { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ } [الحجرات: 13] وعن ابن عباس قال عليه السلام: "من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده" وقال علي بن أبي طالب: التقوى ترك الإصرار عل المعصية، وترك الاغترار وبالطاعة. قال الحسن: التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله، وتعلم أن الأمور كلها بيد الله. وقال إبراهيم بن أدهم: التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً. ولا الملائكة في أفعالك عيباً ولا ملك العرش في سرك عيباً وقال الواقدي: التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق، ويقال: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك، ويقال: المتقي من سلك سبيل المصطفى، ونبذ الدنيا وراء القفا، وكلف نفسه الإخلاص والوفا، واجتنب الحرام والجفا، ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى: { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } كفاه، لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله: { { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ } [البقرة: 185] ثم قال ههنا في القرآن: إنه هدى للمتقين، فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس، فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بإنسان.

المسألة الثالثة: في السؤالات: السؤال الأول: كون الشيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص، فلماذا جعل القرآن هدى للمتقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي، والمهتدي لا يهتدي ثانياً والقرآن لا يكون هدى للمتقين. الجواب: القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى دينه وصدق رسوله، فهو أيضاً دلالة للكافرين. إلا أن الله تعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال: { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا } [النازعات: 45] وقال: { { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِكْرَ } [يۤس: 11] وقد كان عليه السلام منذراً لكل الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره. وأما من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه، لأن كون القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين. السؤال الثاني: كيف وصف القرآن كله بأنه هدى وفيه مجمل ومتشابه كثير؛ ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم عن المتشابه، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن، ومن هذا نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج. لا تحتج عليهم بالقرآن، فإنه خصم ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب ذلك فيه؛ ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر وبعضها صريح في القدر، فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد، فكيف يكون هدى؟.

الجواب: أن ذلك المتشابه والمجمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين ـ وهو إما دلالة العقل أو دلالة السمع ـ صار كله هدى. السؤال الثالث: كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى وصفاته، وفي معرفة النبوة، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق؟.

الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم، فإن الله تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم.

السؤال الرابع: الهدى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسرين ما يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة، وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره، فكيف يكون هدى؟ قلنا: من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المتعارضة، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه هو هذا السؤال، وأما نحن فقد رجحنا واحداً على البواقي بالدليل فلا يتوجه علينا هذا السؤال.

المسألة الرابعة: قال صاحب «الكشاف»: محل { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } الرفع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع { لاَ رَيْبَ فِيهِ } { لذلك } أو مبتدأ إذا جعل الظرف المتقدم خبراً عنه، ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه الإشارة، أو الظرف، والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يضرب عن هذا المجال صفحاً، وأن يقال: إن قوله: { الم } جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } جملة ثانية، و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ثالثة و { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، والثانية متحدة بالأولى وهلم جراً إلى الثالثة، والرابعة.

بيانه: أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير الجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر ـ الذي هو هدى ـ موضع الوصف الذي هو هادٍ، وإيراده منكراً.