التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
٢٥٣
-البقرة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: { تِلْكَ } ابتداء، وإنما قال: { تِلْكَ } ولم يقل أولئك الرسل، لأنه ذهب إلى الجماعة، كأنه قيل: تلك الجماعة الرسل بالرفع، لأنه صفة لتلك وخبر الابتداء { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }.

المسألة الثانية: في قوله: { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ } أقوال أحدها: أن المراد منه: من تقدم ذكرهم من الأنبياء عليهم السلام في القرآن، كإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وموسى وغيرهم صلوات الله عليهم والثاني: أن المراد منه من تقدم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل وداود وطالوت على قول من يجعله نبياً والثالث: وهو قول الأصم: تلك الرسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد، الذين إليهم الإشارة بقوله تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ } [البقرة: 251].

المسألة الثالثة: وجه تعليق هذه الآية بما قبلها ما ذكره أبو مسلم وهو أنه تعالى أنبأ محمداً صلى الله عليه وسلم من أخبار المتقدمين مع قومهم، كسؤال قوم موسى { أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً } [النساء: 153] وقولهم: { ٱجْعَلْ لَّنَا إِلَـٰهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة } [الأعراف: 138] وكقوم عيسى بعد أن شاهدوا منه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله فكذبوه وراموا قتله، ثم أقام فريق على الكفر به وهم اليهود، وفريق زعموا أنهم أولياؤه وادعت على اليهود من قتله وصلبه ما كذبهم الله تعالى فيه كالملأ من بني إسرائيل حسدوا طالوت ودفعوا ملكه بعد المسألة، وكذلك ما جرى من أمر النهر، فعزى الله رسوله عما رأى من قومه من التكذيب والحسد، فقال: هؤلاء الرسل الذين كلم الله تعالى بعضهم، ورفع الباقين درجات وأيد عيسى بروح القدس، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه بعد مشاهدة المعجزات، وأنت رسول مثلهم فلا تحزن على ما ترى من قومك، فلو شاء الله لم تختلفوا أنتم وأولئك، ولكن ما قضى الله فهو كائن، وما قدره فهو واقع وبالجملة فالمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على إيذاء قومه له.

المسألة الرابعة: أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، وعلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من الكل، ويدل عليه وجوه أحدها: قوله تعالى: { { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء: 107] فلما كان رحمة لكل العالمين لزم أن يكون أفضل من كل العالمين.

الحجة الثانية: قوله تعالى: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } فقيل فيه لأنه قرن ذكر محمد بذكره في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ولم يكن ذكر سائر الأنبياء كذلك.

الحجة الثالثة: أنه تعالى قرن طاعته بطاعته، فقال: { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء: 80] وبيعته ببيعته فقال: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح: 10] وعزته بعزته فقال: { { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ } [المنافقون: 8] ورضاه برضاه فقال: { { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة: 62] وإجابته بإجابته فقال: { { يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُول } ِ } [الأنفال: 24].

الحجة الرابعة: أن الله تعالى أمر محمداً بأن يتحدى بكل سورة من القرآن فقال: { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23] وأقصر السور سورة الكوثر وهي ثلاث آيات، وكان الله تحداهم بكل ثلاث آيات من القرآن، ولما كان كل القرآن ستة آلاف آية، وكذا آية، لزم أن لا يكون معجز القرآن معجزاً واحداً بل يكون ألفي معجزة وأزيد.

وإذا ثبت هذا فنقول: إن الله سبحانه ذكر تشريف موسى بتسع آيات بينات، فلأن يحصل التشريف لمحمد بهذه الآيات الكثيرة كان أولى.

الحجة الخامسة: أن معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من معجزات سائر الأنبياء فوجب أن يكون رسولنا أفضل من سائر الأنبياء.

بيان الأول قوله عليه السلام: "القرآن في الكلام كآدم في الموجودات" .

بيان الثاني أن الخلعة كلما كانت أشرف كان صاحبها أكرم عند الملك.

الحجة السادسة: أن معجزته عليه السلام هي القرآن وهي من جنس الحروف والأصوات وهي أعراض غير باقية وسائر معجزات سائر الأنبياء من جنس الأمور الباقية ثم إنه سبحانه جعل معجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى آخر الدهر، ومعجزات سائر الأنبياء فانية منقضية.

الحجة السابعة: أنه تعالى بعد ما حكى أحوال الأنبياء عليهم السلام قال: { أُوْلَـ#1648;ئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90] فأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمن قبله، فإما أن يقال: إنه كان مأموراً بالاقتداء بهم في أصول الدين وهو غير جائز لأنه تقليد، أو في فروع الدين وهو غير جائز، لأن شرعه نسخ سائر الشرائع، فلم يبق إلا أن يكون المراد محاسن الأخلاق، فكأنه سبحانه قال: إنا أطلعناك على أحوالهم وسيرهم، فاختر أنت منها أجودها وأحسنها وكن مقتدياً بهم في كلها، وهذا يقتضي أنه اجتمع فيه من الخصال المرضية ما كان متفرقاً فيهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.

الحجة الثامنة: أنه عليه السلام بعث إلى كل الخلق وذلك يقتضي أن تكون مشقته أكثر، فوجب أن يكون أفضل، أما إنه بعث إلى كل الخلق فلقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } [سبأ: 28] وأما أن ذلك يقتضي أن تكون مشتقه أكثر فلأنه كان إنساناً فرداً من غير مال ولا أعوان وأنصار، فإذا قال لجميع العالمين: يا أيها الكافرون صار الكل أعداء له، وحينئذٍ يصير خائفاً من الكل، فكانت المشقة عظيمة، وكذلك فإن موسى عليه السلام لما بعث إلى بني إسرائيل فهو ما كان يخاف أحداً إلا من فرعون وقومه، وأما محمد عليه السلام فالكل كانوا أعداء له، يبين ذلك أن إنساناً لو قيل له: هذا البلد الخالي عن الصديق والرفيق فيه رجل واحد ذو قوة وسلاح فاذهب إليه اليوم وحيداً وبلغ إليه خبراً يوحشه ويؤذيه، فإنه قلما سمحت نفسه بذلك، مع أنه إنسان واحد، ولو قيل له: اذهب إلى بادية بعيدة ليس فيها أنس ولا صديق، وبلغ إلى صاحب البادية كذا وكذا من الأخبار الموحشة لشق ذلك على الإنسان، أما النبـي صلى الله عليه وسلم فإنه كان مأموراً بأن يذهب طول ليله ونهاره في كل عمره إلى الجن والإنس الذين لا عهد له بهم، بل المعتاد منهم أنهم يعادونه ويؤذونه ويستخفونه، ثم إنه عليه السلام لم يمل من هذه الحالة ولم يتلكأ، بل سارع إليها سامعاً مطيعاً، فهذا يقتضي أنه تحمل في إظهار دين الله أعظم المشاق، ولهذا قال تعالى: { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَـٰتَلَ } [الحديد: 10] ومعلوم أن ذلك البلاء كان على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا عظم فضل الصحابة بسبب تلك الشدة فما ظنك بالرسول، وإذا ثبت أن مشقته أعظم من مشقة غيره وجب أن يكون فضله أكثر من فضل غيره لقوله عليه السلام: "أفضل العبادات أحمزها" .

الحجة التاسعة: أن دين محمد عليه السلام أفضل الأديان، فيلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، بيان الأول أنه تعالى جعل الإسلام ناسخاً لسائر الأديان، والناسخ يجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" فلما كان هذا الدين أفضل وأكثر ثواباً، كان واضعه أكثر ثواباً من واضعي سائر الأديان، فيلزم أن يكون محمد عليه السلام أفضل من سائر الأنبياء.

الحجة العاشرة: أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم، فوجب أن يكون محمد أفضل الأنبياء، بيان الأول قوله تعالى: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110] بيان الثاني أن هذه الأمة إنما نالت هذه الفضيلة لمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران: 31] وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع، وأيضاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ثواباً لأنه مبعوث إلى الجن والإنس، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لأن لكثرة المستجيبين أثراً في علو شأن المتبوع.

الحجة الحادية عشر: أنه عليه السلام خاتم الرسل، فوجب أن يكون أفضل، لأن نسخ الفاضل بالمفضول قبيح في المعقول.

الحجة الثانية عشرة: أن تفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون لأمور منها: كثرة المعجزات التي هي دالة على صدقهم وموجبة لتشريفهم، وقد حصل في حق نبينا عليه السلام ما يفضل على ثلاثة آلاف، وهي بالجملة على أقسام، منها ما يتعلق بالقدرة، كإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، وإروائهم من الماء القليل، ومنها ما يتعلق بالعلوم كالإخبار عن الغيوب، وفصاحة القرآن، ومنها اختصاصه في ذاته بالفضائل، نحو كونه أشرف نسباً من أشراف العرب، وأيضاً كان في غاية الشجاعة، كما روي أنه قال بعد محاربة علي رضي الله عنه لعمرو بن ود: "كيف وجدت نفسك يا علي، قال: وجدتها لو كان كل أهل المدينة في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم فقال: تأهب فإنه يخرج من هذا الوادي فتى يقاتلك" ، الحديث إلى آخره وهو مشهور، ومنها في خلقه وحلمه ووفائه وفصاحته وسخائه، وكتب الحديث ناطقة بتفصيل هذه الأبواب.

الحجة الثالثة عشرة: قوله عليه السلام: "آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيام" وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ومن كل أولاده، وقال عليه السلام: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" وقال عليه السلام: "لا يدخل الجنة أحد من النبيين حتى أدخلها أنا، ولا يدخلها أحد من الأمم حتى تدخلها أمتي" وروى أنس قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربـي ولا فخر" وعن ابن عباس قال: جلس ناس من الصحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثهم فقال بعضهم: عجباً إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاه الله فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "قد سمعت كلامكم وحجتكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجى الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر."

الحجة الرابعة عشرة: روى البيهقي في «فضائل الصحابة» أنه ظهر علي بن أبـي طالب من بعيد فقال عليه السلام: "هذا سيد العرب" فقالت عائشة: ألست أنت سيد العرب؟ "فقال أنا أسيد العالمين وهو سيد العرب" ، وهذا يدل على أنه أفضل الأنبياء عليهم السلام.

الحجة الخامسة عشرة: روى مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر، بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبـي قبلي يبعث إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تكن لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئاً" وجه الاستدلال أنه صريح في أن الله فضله بهذه الفضائل على غيره.

الحجة السادسةَ عشرةَ: قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير هذا المعنى: إن كل أمير فإنه تكون مؤنته على قدر رعيته، فالأمير الذي تكون أمارته على قرية تكون مؤنته بقدر تلك القرية، ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال أمير تلك القرية فكذلك كل رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرسالة، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنما يعطي من هذه الكنوز الروحانية بقدر ذلك الموضع، والمرسل إلى كل أهل الشرق والغرب إنسهم وجنهم لا بد وأن يعطي من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب، وإذا كان كذلك كانت نسبة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كل المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة، ولما كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله، فلا جرم بلغ في العلم إلى الحد الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقه: { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ } [النجم: 10] وفي الفصاحة إلى أن قال: "أوتيت جوامع الكلم" وصار كتابه مهيمناً على الكتب وصارت أمته خير الأمم.

الحجة السابعةَ عشرةَ: روى محمد بن الحكيم الترمذيرحمه الله في كتاب «النوادر»: عن أبـي هريرة عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وموسى نجياً، واتخذني حبيباً، ثم قال وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبـي على خليلي ونجيـي" .

الحجة الثامنة عشرة: في «الصحيحين» عن همام بن منبه عن أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بناؤك؟ فقال محمد: كنت أنا تلك اللبنة" .

الحجة التاسعة عشرة: أن الله تعالى كلما نادى نبياً في القرآن ناداه باسمه { وَيَــٰئَادَمُ ٱسْكُنْ } [البقرة: 35]، { { وَنَـٰدَيْنَـٰهُ أَن يٰإِبْرٰهِيمُ } [الصافات: 104]، { { يا مُوسَىٰ * إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } [طهۤ: 10، 11] وأما النبـي عليه السلام فإنه ناداه بقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىّ }، { يٰأَيُّها ٱلرَّسُولَ } وذلك يفيد الفضل.

واحتج المخالف بوجوه الأول: أن معجزات الأنبياء كانت أعظم من معجزاته، فإن آدم عليه السلام كان مسجوداً للملائكة، وما كان محمد عليه السلام كذلك، وإن إبراهيم عليه السلام ألقي في النيران العظيمة فانقلبت روحاً وريحاناً عليه، وأن موسى عليه السلام أوتي تلك المعجزات العظيمة، ومحمد ما كان له مثلها، وداود لان له الحديد في يده، وسليمان كان الجن والإنس والطير والوحش والرياح مسخرين له، وما كان ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم، وعيسى أنطقه الله في الطفولية وأقدره على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما كان ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم.

الحجة الثانية: أنه تعالى سمى إبراهيم في كتابه خليلاً، فقال: { { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرٰهِيمَ خَلِيلاً } [النساء: 125] وقال في موسى عليه السلام { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [النساء: 164] وقال في عيسى عليه السلام: { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [التحريم: 12] وشيء من ذلك لم يقله في حق محمد عليه السلام.

الحجة الثالثة: قوله عليه السلام: "لا تفضلوني على يونس بن متى" وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروا بين الأنبياء" .

الحجة الرابعة: روي عن ابن عباس قال: كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء فذكرنا نوحاً بطول عبادته، وإبراهيم بخلته، وموسى بتكليم الله تعالى إياه، وعيسى برفعه إلى السماء، وقلنا رسول الله أفضل منهم، بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء، فدخل رسول الله فقال: "فيم أنتم؟" فذكرنا له فقال: "لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيـى بن زكريا" وذلك أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها.

والجواب: أن كون آدم عليه السلام مسجوداً للملائكة لا يوجب أن يكون أفضل من محمد عليه السلام، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة" وقال: "كنت نبياً وآدم بين الماء والطين" ونقل أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وهذا أعظم من السجود، وأيضاً أنه تعالى صلى بنفسه على محمد، وأمر الملائكة والمؤمنين بالصلاة عليه، وذلك أفضل من سجود الملائكة، ويدل عليه وجوه الأول: أنه تعالى أمر الملائكة بسجود آدم تأديباً، وأمرهم بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم تقريباً والثاني: أن الصلاة على محمد عليه السلام دائمة إلى يوم القيامة، وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام ما كان إلا مرة واحدة الثالث: أن السجود لآدم إنما تولاه الملائكة، وأما الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم فإنما تولاها رب العالمين ثم أمر بها الملائكة والمؤمنين والرابع: أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد عليه السلام في جبهة آدم.

فإن قيل: إنه تعالى خص آدم بالعلم، فقال: { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَاء كُلَّهَا } [البقرة: 31] وأما محمد عليه السلام فقال في حقه: { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ } [الشورى: 52] وقال: { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى: 7] وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى، قال: { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَاء } ومعلم محمد عليه السلام جبريل عليه السلام لقوله: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم: 5].

والجواب: أنه تعالى قال في علم محمد صلى الله عليه وسلم: { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء: 113] وقال عليه السلام: "أدبني ربـي فأحسن تأديبـي" وقال تعالى: { الرحمٰن علم القرآن } [الرحمٰن: 2] وكان عليه السلام يقول: "أرنا الأشياء كما هي" وقال تعالى لمحمد عليه السلام: { { وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً } [طهۤ: 114] وأما الجمع بينه وبين قوله تعالى: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } فذاك بحسب التلقين، وأما التعليم فمن الله تعالى، كما أنه تعالى قال: { { قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ } [السجدة: 11] ثم قال تعالى: { { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [الزمر: 42].

فإن قيل: قال نوح عليه السلام { وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 114] وقال الله تعالى لمحمد عليه السلام: { { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [الأنعام: 52] وهذا يدل على أن خلق نوح أحسن.

قلنا: إنه تعالى قال: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [نوح: 1] فكان أول أمره العذاب، وأما محمد عليه السلام فقيل فيه: { { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء: 107]، { { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [التوبة: 128] إلى قوله: { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } فكان عاقبة نوح أن قال: { { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ دَيَّاراً } [نوح: 26] وعاقبة محمد عليه السلام الشفاعة { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } [الإسراء: 79] وأما سائر المعجزات فقد ذكر في «كتب دلائل النبوة» في مقابلة كل واحد منها معجزة أفضل منها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب لا يحتمل أكثر مما ذكرناه، والله أعلم.

وأما قوله تعالى: { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: المراد منه من كلمه الله تعالى، والهاء تحذف كثيراً كقوله تعالى: { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [الزخرف:71].

المسألة الثانية: قرىء { كلـم الله } بالنصب، والقراءة الأولى أدل على الفضل، لأن كل مؤمن فإنه يكلم الله على ما قال عليه السلام: "المصلي مناج ربه" إنما الشرف في أن يكلمه الله تعالى، وقرأ اليماني: { كالــم الله } من المكالمة، ويدل عليه قولهم: كليم الله بمعنى مكالمه.

المسألة الثالثة: اختلفوا في أن من كلمه الله فالمسموع هو الكلام القديم الأزلي، الذي ليس بحرف ولا صوت أم غيره؟ فقال الأشعري وأتباعه: المسموع هو ذلك فإنه لما لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف، فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف، وقال الماتريدي: سماع ذلك الكلام محال، وإنما المسموع هو الحرف والصوت.

المسألة الرابعة: اتفقوا على أن موسى عليه السلام مراد بقوله تعالى: { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } قالوا وقد سمع من قوم موسى السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله: { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً } [الأعراف: 155] وهل سمعه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج؟ اختلفوا فيه منهم من قال: نعم بدليل قوله: { { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ } [النجم: 10].

فإن قيل: إن قوله تعالى: { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى، ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام، قال: { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس، حيث قال: { فَأَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } [صۤ: 79 ـ 81] إلى آخر هذه الآيات وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم وإن لم يوجب شرفاً فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال: { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً }؟.

والجواب: أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل الواسطة كانت موجودة.

أما قوله تعالى: { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـٰتٍ } ففيه قولان الأول: أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة، وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يؤت أحداً مثله هذه الفضيلة، وجمع لداود الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره، وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح، ولم يكن هذا حاصلاً لأبيه داود عليه السلام، ومحمد عليه السلام مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع، وهذا إن حملنا الدرجات على المناصب والمراتب، أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضاً وجه، لأن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزة لائقاً بزمانه فمعجزات موسى عليه السلام، وهي قلب العصا حية، واليد البيضاء، وفلق البحر، كان كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر، ومعجزات عيسى عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه، وهو الطب، ومعجزة محمد عليه السلام، وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار، وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة، وبالبقاء وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القوة، وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا، وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة، فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان مستجمعاً للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر.

القول الثاني: أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام، لأنه هو المفضل على الكل، وإنما قال: { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـٰتٍ } على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له: من فعل هذا فيقول أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه، ويكون ذلك أفخم من التصريح به، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس، فذكر زهيراً والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة.

فإن قيل: المفهوم من قوله: { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـٰتٍ } هو المفهوم من قوله: { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } فما الفائدة في التكرير؟ وأيضاً قوله: { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } كلام كلي، وقوله بعد ذلك: { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } شروع في تفصيل تلك الجملة، وقوله بعد ذلك: { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـٰتٍ } إعادة لذلك الكلي، ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركاً.

والجواب: أن قوله: { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض، فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله: { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـٰتٍ } فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريراً.

أما قوله تعالى: { وءَاتينا عيسى ابن مريم البينات } ففيه سؤالات:

السؤال الأول: أنه تعالى قال في أول الآية: { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال: { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـٰتٍ } ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال: { وآتينا عيسى بن مريم البينـات } فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى؟.

والجواب: أن قوله: { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } أهيب وأكثر وقعاً من أن يقال منهم من كلمنا، ولذلك قال: { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } فلهذا المقصود اختار لفظة الغيبة.

وأما قوله: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } فإنما اختار لفظ المخاطبة، لأن الضمير في قوله: { وَءاتَيْنَا } ضمير التعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء.

السؤال الثاني: لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما؟.

والجواب: سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما وأيضاً فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما، كأنه قيل: هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما، بل نازعوا وخالفوا، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا.

السؤال الثالث: تخصيص عيسى بن مريم بإيتاء البينات، يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره، ومعلوم أن ذلك غير جائز فإن قلتم: إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات أقوى؟ فنقول: إن بينات موسى عليه السلام كانت أقوى من بينات عيسى عليه السلام، فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة.

الجواب: المقصود منه التنبيه على قبح أفعال اليهود، حيث أنكروا نبوة عيسى عليه السلام مع ما ظهر على يديه من البينات اللائحة.

السؤال الرابع: البينات جمع قلة، وذلك لا يليق بهذا المقام.

قلنا: لا نسلم أنه جمع قلة، والله أعلم.

أما قوله تعالى: { وَأَيَّدْنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: القدس تثقله أهل الحجاز وتخففه تميم.

المسألة الثانية: في تفسيره أقوال الأول: قال الحسن: القدس هو الله تعالى، وروحه جبريل عليه السلام، والإضافة للتشريف، والمعنى أعناه بجبريل عليه السلام في أول أمره وفي وسطه وفي آخره، أما في أول الأمر فلقوله: { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [التحريم: 12] وأما في وسطه فلأن جبريل عليه السلام علمه العلوم، وحفظه من الأعداء، وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام ورفعه إلى السماء والذي يدل على أن روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُس } ِ } [النحل: 102].

والقول الثاني: وهو المنقول عن ابن عباس أن روح القدس هو الاسم الذي كان يحيـي به عيسى عليه السلام الموتى.

والقول الثالث: وهو قول أبـي مسلم: أن روح القدس الذي أيد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه، وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى.

ثم قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: تعلق هذه بما قبلها هو أن الرسل بعدما جاءتهم البينات، ووضحت لهم الدلائل والبراهين، اختلفت أقوامهم، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا.

المسألة الثانية: احتج القائلون بأن كل الحوادث بقضاء الله وقدره بهذه الآية، وقالوا تقدير الآية: ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا، والمعنى أن عدم الاقتتال لازم لمشيئة عدم الاقتتال، وعدم اللازم يدل على عدم اللزوم، فحيث وجد الاقتتال علمنا أن مشيئة عدم الاقتتال مفقودة، بل كان الحاصل هو مشيئة الاقتتال، ولا شك أن ذلك الاقتتال معصية، فدل ذلك على أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان بقضاء الله وقدره ومشيئته، وعلى أن قتل الكفار وقتالهم للمؤمنين بإرادة الله تعالى.

وأما المعتزلة فقد أجابوا عن الاستدلال، وقالوا: المقصود من الآية بيان أن الكفار إذا قتلوا فليس ذلك بغلبة منهم لله تعالى وهذا المقصود يحصل بأن يقال: إنه تعالى لو شاء لأهلكهم وأبادهم أو يقال: لو شاء لسلب القوى والقدر منهم أو يقال: لو شاء لمنعهم من القتال جبراً وقسراً وإذا كان كذلك فقوله: { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ } المراد منه هذه الأنواع من المشيئة، وهذا كما يقال: لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته، ولم تشرب النصارى الخمر، والمراد منه المشيئة التي ذكرناها، وكذا ههنا، ثم أكد القاضي هذه الأجوبة وقال: إذا كانت المشيئة تقع على وجوه وتنتفي على وجوه لم يكن في الظاهر دلالة على الوجه المخصوص، لا سيما وهذه الأنواع من المشيئة متباينة متنافية.

والجواب: أن أنواع المشيئة وإن اختلفت وتباينت إلا أنها مشتركة في عموم كونها مشيئة، والمذكور في الآية في معرض الشرط هو المشيئة من حيث إنها مشيئة، لا من حيث إنها مشيئة خاصة، فوجب أن يكون هذا المسمى حاصلاً، وتخصيص المشيئة بمشيئة خاصة، وهي إما مشيئة الهلاك، أو مشيئة سلب القوى والقدر، أو مشيئة القهر والإجبار، تقييد للمطلق وهو غير جائز، وكما أن هذا التخصيص على خلاف ظاهر اللفظ فهو على خلاف الدليل القاطع، وذلك لأن الله تعالى إذا كان عالماً بوقوع الاقتتال، والعلم بوقوع الاقتتال حال عدم وقوع الاقتتال جمع بين النفي والإثبات، وبين السلب والإيجاب، فحال حصول العلم بوجود الاقتتال لو أراد عدم الاقتتال لكان قد أراد الجمع بين النفي والإثبات وذلك محال، فثبت أن ظاهر الآية على ضد قولهم، والبرهان القاطع على ضد قولهم وبالله التوفيق.

ثم قال: { وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } فقد ذكرنا في أول الآية أن المعنى: ولو شاء لم يختلفوا، وإذا لم يختلفوا لم يقتتلوا، وإذا اختلفوا فلا جرم اقتتلوا، وهذه الآية دالة على أن الفعل لا يقع إلا بعد حصول الداعي، لأنه بين أن الاختلاف يستلزم التقاتل، والمعنى أن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة، وذلك يدل على أن المقاتلة لا تقع إلا لهذا الداعي، وعلى أنه متى حصل هذا الداعي وقعت المقاتلة، فمن هذا الوجه يدل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند عدم الداعي، وواجب عند حصول الداعي، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكل بقضاء الله وقدره، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله في العبد دفعاً للتسلسل، فكانت الآية دالة أيضاً من هذا الوجه على صحة مذهبنا.

ثم قال: { وَلَوْ شَاءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ } فإن قيل: فما الفائدة في التكرير؟.

قلنا: قال الواحديرحمه الله تعالى: إنما كرره تأكيداً للكلام وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى.

ثم قال: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله واحتج الأصحاب بهذه الآية على أنه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين، وقالوا: لأن الخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن، ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى، وأيضاً لما دل على أنه يفعل كل ما يريد فلو كان يريد الإيمان من الكفار لفعل فيهم الإيمان، ولكانوا مؤمنين، ولما لم يكن كذلك دل على أنه تعالى لا يريد الإيمان منهم، فكانت هذه الآية دالة على مسألة خلق الأعمال، وعلى مسألة إرادة الكائنات والمعتزلة يقيدون المطلق ويقولون: المراد يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه، وهذا ضعيف لوجوه أحدها: أنه تقييد للمطلق والثاني: أنه على هذا التقييد تصير الآية بياناً للواضحات فإنه يصير معنى الآية أنه يفعل ما يفعله الثالث: أن كل أحد كذلك فلا يكون في وصف الله تعالى بذلك دليلاً على كمال قدرته وعلو مرتبته، والله أعلم.