التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ
١٥
فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ
١٦
-طه

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما خاطب موسى عليه السلام بقوله: { { فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } [طه: 14] أتبعه بقوله: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } وما أليق هذا بتأويل من تأول قوله { لِذِكْرِى } أي لأذكرك بالأمانة والكرامة فقال عقيب ذلك: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة ثم قال: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } وفيه سؤالان:

السؤال الأول: هو أن كاد نفيه إثبات وإثباته نفي بدليل قوله: { { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [البقرة: 71] أي وفعلوا ذلك فقوله: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } يقتضي أنه ما أخفاها وذلك باطل لوجهين، أحدهما: قوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [لقمان: 34]. والثاني: أن قوله: { لِتَجْزِىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار. والجواب: من وجوه، أحدها: أن كاد موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات فقوله: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } معناه قرب الأمر فيه من الإخفاء وأما أنه هل حصل ذلك الإخفاء أو ما حصل فذلك غير مستفاد من اللفظ بل من قرينة قوله: { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار. وثانيها: أن كاد من الله واجب فمعنى قوله: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } أي أنا أخفيها عن الخلق كقوله: { { عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا } [الإسراء: 51] أي هو قريب قاله الحسن. وثالثها: قال أبو مسلم: { أَكَادُ } بمعنى أريد وهو كقوله: { { كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } [يوسف: 76] ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي ولا أريد أن أفعله. ورابعها: معناه: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي وقيل إنها كذلك في مصحف أبي وفي حرف ابن مسعود: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي فكيف أعلنها لكم قال القاضي هذا بعيد لأن الإخفاء إنما يصح فيمن يصلح له الإظهار وذلك مستحيل على الله تعالى لأن كل معلوم معلوم له فالإظهار والإسرار منه مستحيل، ويمكن أن يجاب عنه بأن ذلك واقع على التقدير يعني لو صح مني إخفاؤه على نفسي لأخفيته عني والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه لا يمتنع أن يذكر ذلك على هذا التقدير مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه، قال قطرب: هذا على عادة العرب في مخاطبة بعضهم بعضاً يقولون: إذا بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي فالله تعالى بالغ في إخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب في مثله. وخامسها: { أَكَادُ } صلة في الكلام والمعنى: إن الساعة آتية أخفيها، قال زيد الخيل:

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس

والمعنى فما يتنفس قرنه. وسادسها: قال أبو الفتح الموصلي { أَكَادُ أُخْفِيهَا } تأويله أكاد أظهرها وتلخيص هذا اللفظ أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب والنفي كقولك أعجمت الكتاب وأشكلته أي أزلت عجمته وإشكاله وأشكيته أي أزلت شكواه. وسابعها: قرىء أخفيها بفتح الألف أي أكاد أظهرها من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهاره كقوله: { { ٱ;قْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } [القمر: 1] قال امرؤ القيس:

فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تمنعوا الحرب لا نقعد

أي لا نظهره قال الزجاج وهذه القراءة أبين لأن معنى أكاد أظهرها يفيد أنه قد أخفاها. وثامنها: أراد أن الساعة آتية أكاد وانقطع الكلام ثم قال أخفيها ثم رجع الكلام الأول إلى أن الأولى الإخفاء: { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } وهذا الوجه بعيد، والله أعلم. السؤال الثاني: ما الحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت؟ الجواب: لأن الله تعالى وعد قبول التوبة فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قريب من ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية، وإنه لا يجوز. أما قوله: { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة ذكر الدليل عليه وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء وذلك غير جائز وهو الذي عناه الله تعالى بقوله: { { أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ص: 28].

المسألة الثانية: احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل لأن الباء للالصاق فقوله: { بِمَا تَسْعَىٰ } يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي.

المسألة الثالثة: احتجوا بها على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى وذلك لأن الآية صريحة في إثبات سعي العبد ولو كان الكل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة أما قوله: { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } فالصد المنع وههنا مسائل:

المسألة الأولى: في هذين الضميرين وجهان. أحدهما: قال أبو مسلم لا يصدنك عنها أي عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي بالساعة فالضمير الأول عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه. وثانيهما: قال ابن عباس فلا يصدنك عن الساعة أي عن الإيمان بمجيئها من لا يؤمن بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة. قال القاضي: وهذا أولى لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم فإنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا.

المسألة الثانية: الخطاب في قوله: { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ } يحتمل أن يكون مع موسى عليه السلام وأن يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم والأقرب أنه مع موسى لأن الكلام أجمع خطاب له وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج إنه ليس بمراد وإنما أريد به غيره وذلك لأنه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يجز عليه مع النبوة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطباً بذلك وليس الأمر كما ظن، لأنه إذا كان مكلفاً بأن لا يقبل الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به ويكون المراد هو وغيره، ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله: { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } النهي له عن الميل إليهم ومقاربتهم.

المسألة الثالثة: المقصود نهي موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صد موسى عليه السلام وفيه وجهان، أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب. والثاني: أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل حمله على السبب كقوله: لا أرينك ههنا المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته، فكذا ههنا كأنه قيل: لا تكن رخواً بل كن في الدين شديداً صلباً.

المسألة الرابعة: الآية تدل على أن تعلم علم الأصول واجب لأن قوله: { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ } يرجع معناه إلى صلابته في الدين وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه من المحق فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل هو يكون متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانه.

المسألة الخامسة: قال القاضي قوله: { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ } يدل على أن العباد هم الذين يصدون ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصاد دونهم فدل ذلك على بطلان القول بالجبر، والجواب: المعارضة بمسألة العلم والداعي، والله أعلم، أما قوله تعالى: { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } فالمعنى أن منكر البعث إنما أنكره اتباعاً للهوى لا لدليل وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد لأن المقلد متبع للهوى لا الحجة أما قوله: { فَتَرْدَىٰ } فهو بمعنى ولا يصدنك فتردى وإن صدوك وقبلت فليس إلا الهلاك بالنار. واعلم أن المتوغلين في أسرار المعرفة قالوا: المقام مقامان. أحدهما: مقام المحو والفناء عما سوى الله تعالى. والثاني: مقام البقاء بالله والأول مقدم على الثاني لأن من أراد أن يكتب شيئاً في لوح مشغول بكتابة أخرى فلا سبيل له إليه إلا بإزالة الكتابة الأولى ثم بعد ذلك يمكن إثبات الكتابة الثانية والحق سبحانه راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب لأنه قال لموسى عليه السلام اولا: { فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } وهو إشارة إلى تطهير السر عما سوى الله تعالى ثم بعد ذلك أمره بتحصيل ما يجب تحصيله وأصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة: علم المبدأ وعلم الوسط وعلم المعاد، فعلم المبدأ هو معرفة الحق سبحانه وتعالى وهو المراد بقوله: { { إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } [طه: 14] وأما علم الوسط فهو علم العبودية ومعناها الأمر الذي يجب أن يشتغل الإنسان به في هذه الحياة الجسمانية وهو المراد بقوله: { { فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } [طه: 14] ثم في هذا أيضاً تعثر لأن قوله: { فَٱعْبُدْنِي } إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله: { لِذِكْرِي } إشارة إلى الأعمال الروحانية والعبودية أولها الأعمال الجسمانية وآخرها الأعمال الروحانية وأما علم المعاد فهو قوله: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } ثم إنه تعالى افتتح هذه التكاليف بمحض اللطف وهو قوله: { { إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } [طه: 12] واختتمها بمحض القهر وهو قوله: { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ } تنبيهاً على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة والرهبة والرجاء والخوف، وعند الوقوف على هذه الجملة تعرف أن هذا الترتيب هو النهاية في الحسن والجودة وأن ذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات.