التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ
١٠١
لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ
١٠٢
لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ هَـٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
١٠٣
-الأنبياء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن من الناس من زعم أن ابن الزبعري لما أورد ذلك السؤال على الرسول صلى الله عليه وسلم بقي ساكتاً حتى أنزل الله تعالى هذه الآية جواباً عن سؤاله لأن هذه الآية كالإستثناء من تلك الآية. وأما نحن فقد بينا فساد هذا القول وذكرنا أن سؤاله لم يكن وارداً، وأنه لا حاجة في دفع سؤاله إلى نزول هذه الآية، وإذا ثبت هذا لم يبق ههنا إلا أحد أمرين: الأول: أن يقال: إن عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار، فلهذا السبب ذكر هذه الآية عقيب تلك فهي عامة في حق كل المؤمنين. الثاني: أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعري، ثم من قال العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهو الحق أجراها على عمومها فتكون الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام داخلين فيها، لا أن الآية مختصة بهم، ومن قال: العبرة بخصوص السبب خصص قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ } بهؤلاء فقط.

أما قوله تعالى: { سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } فقال صاحب «الكشاف»: الحسنى الخصلة المفضلة والحسنى تأنيث الأحسن، وهي إما السعادة وإما البشرى بالثواب، وإما التوفيق للطاعة. والحاصل أن مثبتي العفو حملوا الحسنى على وعد العفو ومنكري العفو حملوه على وعد الثواب، ثم إنه سبحانه وتعالى شرح من أحوال ثوابهم أمور خمسة: أحدها: قوله: { أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } فقال أهل العفو معناه أولئك عنها مخرجون، واحتجوا عليه بوجهين: الأول: قوله: { { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم: 71] أثبت الورود وهو الدخول، فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج. الثاني: أن أبعاد الشيء عن الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن الآخر، لأن تحصيل الحاصل محال، واحتج القاضي عبد الجبار على فساد هذا القول الأول بأمور: أحدها: أن قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } يقتضي أن الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا وليس هذا حال من يخرج من النار لو صح ذلك. وثانيها: أنه تعالى قال: { أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } وكيف يدخل في ذلك من وقع فيها. وثالثها: قوله تعالى: { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } وقوله: { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } يمنع من ذلك. والجواب عن الأول: لا نسلم أن [يقال] المراد من قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم، ولم لا يجوز أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالعفو، سلمنا أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالثواب، لكن لم قلتم إن الوعد بالثواب لا يليق بحال من يخرج من النار فإن عندنا المحابطة باطلة ويجوز الجمع بين استحقاق الثواب والعقاب. وعن الثاني: أنا بينا أن قوله: { أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار. وعن الثالث: أن قوله: { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } مخصوص بما بعد الخروج.

أما قوله: { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } فالفزع الأكبر هو عذاب الكفار، وهذا بطريق المفهوم يقتضي أنهم يحزنهم الفزع الأصغر، فإن لم يدل عليه فلا أقل من أن لا يدل على ثبوته ولا على عدمه. الوجه الثاني: في تفسير قوله: { أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } أن المراد الذين سبقت لهم منا الحسنى لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة، وعلى هذا القول بطل قول من يقول: إن جميع الناس يردون النار ثم يخرجون إلى الجنة، لأن هذه الآية مانعة منه وحينئذ يجب التوفيق بينه وبين قوله: { { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم: 71] وقد تقدم. الصفة الثانية: قوله تعالى: { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } والحسيس الصوت الذي يحس، وفيه سؤالان: الأول: أي وجه في أن لا يسمعوا حسيسها من البشارة ولو سمعوه لم يتغير حالهم. قلنا: المراد تأكيد بعدهم عنها لأن من لم يدخلها وقرب منها قد يسمع حسيسها. السؤال الثاني: أليس أن أهل الجنة يرون أهل النار فكيف لا يسمعون حسيس النار؟ الجواب: إذا حملناه على التأكيد زال هذا السؤال. الصفة الثالثة: قوله: { وَهُمْ فِيمَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـٰلِدُونَ } والشهوة طلب النفس للذة يعني نعيمها مؤبد، قال العارفون: للنفوس شهوة وللقلوب شهوة وللأرواح شهوة، وقال الجنيد: سبقت العناية في البداية، فظهرت الولاية في النهاية. الصفة الرابعة: قوله: { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } وفيه وجوه: أحدها: أنها النفخة الأخيرة لقوله تعالى: { { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ } [النمل: 87]. وثانيها: أنه الموت قالوا: إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بعث الله تعالى جبريل عليه السلام ومعه الموت في صورة كبش أملح فيقول لأهل الدارين أتعرفون هذا فيقولون: لا فيقول هذا الموت ثم يذبحه ثم ينادي يا أهل الجنة خلود ولا موت أبداً، وكذلك لأهل النار، واحتج هذا القائل بأن قوله: { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } إنما ذكر بعد قوله: { { وَهُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } [البقرة: 25] فلا بد وأن يكون لأحدهما تعلق بالآخر، والفزع الأكبر الذي هو ينافي الخلود هو الموت. وثالثها: قال سعيد بن جبير هو إطباق النارعلى أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة، قال القاضي عبد الجبار: الأولى في ذلك إنه الفزع من النار عند مشاهدتها لأنه لا فزع أكبر من ذلك، فإذا بين تعالى أن ذلك لا يحزنهم فقد صح أن المؤمن آمن من أهوال يوم القيامة، وهذا ضعيف لأن عذاب النار على مراتب فعذاب الكفار أشد من عذاب الفساق، وإذا كانت مراتب التعذيب بالنار متفاوتة كانت مراتب الفزع منها متفاوتة، فلا يلزم من نفي الفزع الأكبر نفي الفزع من النار.

الصفة الخامسة: قوله: { وَتَتَلَقَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ هَـٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } قال الضحاك: هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم ويقولون لهم مبشرين: { هَـٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }.