التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّمَآ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
١٠٨
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ
١٠٩
إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ
١١٠
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ
١١١
قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ
١١٢
-الأنبياء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما أورد على الكفار الحجج في أن لا إله سواه من الوجوه التي تقدم ذكرها، وبين أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين، أتبع ذلك بما يكون إعذاراً وإنذاراً في مجاهدتهم والإقدام عليهم، فقال: { قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَىَّ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال صاحب «الكشاف»: إنما يقصر الحكم على شيء أو يقصر الشيء على حكم، كقولك إنما زيد قائم أو إنما يقوم زيد، وقد اجتمع المثالان في هذه الآية. لأن: { إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَىَّ } مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد: { أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصور على إثبات وحدانية الله تعالى وفي قوله؛ { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } أن الوحي الوارد على هذا السنن يوجب أن تخلصوا التوحيد له وأن تتخلصوا من نسبة الأنداد، وفيه أنه يجوز إثبات التوحيد بالسمع. فإن قيل: لو دلت إنما على الحصر لزم أن يقال: إنه لم يوح إلى الرسول شيء إلا التوحيد ومعلوم أن ذلك فاسد، قلنا: المقصود منه المبالغة، أما قوله: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاء } فقال صاحب «الكشاف»: آذن منقول من أذن إذا علم ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار، ومنه قوله: { { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [البقرة: 279] إذا عرفت هذا فنقول: المفسرون ذكروا فيه وجوهاً. أحدها: قال أبو مسلم: الإيذان على السواء الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى: { { فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاء } [الأنفال: 58] وفائدة ذلك أنه كان يجوز أن يقدر على من أشرك من قريش أن حالهم مخالف لسائر الكفار في المجاهدة، فعرفهم بذلك أنهم كالكفار في ذلك. وثانيها: أن المراد فقد أعلمتكم ما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره على السواء، فلم أفرق في الإبلاغ والبيان بينكم، لأني بعثت معلماً. والغرض منه إزاحة العذر لئلا يقولوا: { { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } [طه: 134]. وثالثها: على سواء على إظهار وإعلان. ورابعها: على مهل، والمراد أني لا أعاجل بالحرب الذي آذنتكم به بل أمهل وأؤخر رجاء الإسلام منكم.

أما قوله: { وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } ففيه وجهان: أحدهما: { أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } من يوم القيامة، ومن عذاب الدنيا ثم قيل: نسخه قوله: { { وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ } [الأنبياء: 97] يعني منهما، فإن مثل هذا الخبر لا يجوز نسخه. وثانيها: المراد أن الذي آذنهم فيه من الحرب لا يدري هو قريب أم بعيد لئلا يقدر أنه يتأخر كأنه تعالى أمره بأن ينذرهم بالجهاد الذي يوحى إليه أن يأتيه من بعد ولم يعرفه الوقت، فلذلك أمره أن يقول: إنه لا يعلم قربه أم بعده. تبين بذلك أن السورة مكية، وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة. وثالثها: أن ما يوعدون به من غلبة المسلمين عليهم كائن لا محالة ولا بد أن يلحقهم بذلك الذل والصغار، وإن كنت لا أدري متى يكون، وذلك لأن الله تعالى لم يطلعني عليه.

أما قوله تعالى: { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } فالمقصود منه الأمر بالإخلاص وترك النفاق، لأنه تعالى إذا كان عالماً بالضمائر وجب على العاقل أن يبالغ في الإخلاص.

أما قوله تعالى: { وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } ففيه وجوه؛ أحدها: لعل تأخير العذاب عنكم. وثانيها: لعل إبهام الوقت الذي ينزل بكم العذاب فيه فتنة لكم أي بلية واختبار لكم ليرى صنعكم وهل تحدثون توبة ورجوعاً عن كفركم أم لا. وثالثها: قال الحسن: لعل ما أنتم فيه من الدنيا بلية لكم والفتنة البلوى والاختبار. ورابعها: لعل تأخير الجهاد فتنة لكم إذا أنتم دمتم على كفركم، لأن ما يؤدي إلى الضرر العظيم يكون فتنة، وإنما قال لا أدري لتجويز أن يؤمنوا فلا يكون تبقيتهم فتنة بل ينكشف عن نعمة ورحمة. وخامسها: أن يكون المراد وإن أدري لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت فتنة لكم، لأنه زيادة في عذابكم إن لم تؤمنوا لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالاً بعد حال يكون عذابه أشد، وإذا متعه الله تعالى بالدنيا يكون ذلك كالحجة عليه.

أما قوله تعالى: { قَالَ رَبّ ٱحْكُم بِٱلْحَقّ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرىء: (قل رب أحكم بالحق) على الإكتفاء بالكسرة (ورب احكم) على الضم (وربي أحكم) أفعل التفضيل (وربي أحكم) من الإحكام.

المسألة الثانية: { رَبّ ٱحْكُم بِٱلْحَقّ } فيه وجوه: أحدها أي ربي اقض بيني وبين قومي بالحق أي بالعذاب. كأنه قال: اقص بيني وبين من كذبني بالعذاب، وقال قتادة: أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون: { { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقّ } [الأعراف: 89] فلا جرم حكم الله تعالى عليهم بالقتل يوم بدر. وثانيها: افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع وهو أن تنصرني عليهم.

أما قوله تعالى: { وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } ففيه وجهان؛ أحدهما: أي من الشرك والكفر وما تعارضون به دعوتي من الأباطيل والتكذيب كأنه سبحانه قال: قل داعياً لي: { رَبّ ٱحْكُم بِٱلْحَقّ } وقل متوعداً للكفار: { وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } قرأ ابن عامر بالياء المنقوطة من تحت، أي قل لأصحابك المؤمنين، وربنا الرحمن المستعان على ما يصف الكفار من الأباطيل، أي من العون على دفع أباطيلهم. وثانيها: كانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وخذلهم، قال القاضي: إنما ختم الله هذه السورة بقوله: { قال رَّبّ ٱحْكُم بِٱلْحَقّ } لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان الغاية لهم وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له وتعريفاً أن المقصود مصلحتهم، فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم، فعليك بالانقطاع إلى ربك ليحكم بينك وبينهم بالحق، إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره، وإما بتأخير ذلك فإن أمرهم وإن تأخر فما هو كائن قريب، وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول كالإستعجال للأمر بمجاهدتهم وبالله التوفيق، وصلاته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وسلم تسليماً آمين.

وقد عني بتصحيحه ومراجعته والتعليق عليه على النسخة الأميرية المطبوعة في مطبعة بولاق المقر بالعجز والتقصير عبدالله إسماعيل الصاوي عاملة الله بلطفه وجزى الله طابعه حضرة السيد الفاضل عبد الرحمن أفندي محمد صاحب المطبعة البهية أحسن الجزاء وأثابه أجزل الصواب بحرصه على نشر العلم ونفع علماء المسلمين إنه سميع مجيب.