التفاسير

< >
عرض

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٨٣
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ
٨٤
-الأنبياء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

(القصة السادسة، قصة أيوب عليه السلام)

اعلم أن في أمر أيوب عليه السلام وما ذكره الله تعالى من شأنه ههنا وفي غيره من القرآن من العبر والدلائل ما ليس في غيره، لأنه تعالى مع عظيم فضله أنزل به من المرض العظيم ما أنزله مما كان غبرة له ولغيره ولسائر من سمع بذلك وتعريفاً لهم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على المرء أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد في القيام بحق الله تعالى ويصبر على حالتي الضراء والسراء وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال وهب بن منبه: كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم وهو أيوب ابن أنوص وكان من ولد عيص بن إسحق وكانت أمه من ولد لوط، وكان الله تعالى قد اصطفاه وجعله نبياً، وكان مع ذلك قد أعطاه من الدنيا حظاً وافراً من النعم والدواب والبساتين وأعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء، وكان رحيماً بالمساكين، وكان يكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وعرفوا فضله، قال وهب: وإن لجبريل عليه السلام بين يدي الله تعالى مقاماً ليس لأحد من الملائكة مثله في القربة والفضيلة، وهو الذي يتلقى الكلام فإذا ذكر الله عبداً بخير تلقاه جبريل عليه السلام ثم تلقاه ميكائيل عليه السلام ثم من حوله من الملائكة المقربين، فإذا شاع ذلك فهم يصلون عليه. ثم صلت ملائكة السموات ثم ملائكة الأرض. وكان إبليس لم يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهن حيثما أراد، ومن هناك وصل إلى آدم عليه السلام حتى أخرجه من الجنة. ولم يزل على ذلك حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع. فكان يصعد بعد ذلك إلى ثلاث إلى زمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فحجب عند ذلك عن جميع السموات إلا من استرق السمع، قال: فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب فأدركه الحسد، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه، فقال: يا رب إنك أنعمت على عبدك أيوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجربه بشدة ولا بلاء وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك، فقال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله. فانقض الملعون حتى وقع إلى الأرض وجمع عفاريت الشياطين، وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب؟ قال عفريت: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار فأحرقت كل شيء آتى عليه، فقال إبليس: فأت الإبل ورعاءها فذهب ولم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها شيء إلا احترق فلم يزل يحرقها ورعاءها حتى أتى على آخرها، فذهب إبليس على شكل بعض أولئك الرعاة إلى أيوب فوجده قائماً يصلي، فلما فرغ من الصلاة قال: يا أيوب هل تدري ما صنع ربك الذي اخترته بإبلك ورعائها؟ فقال أيوب: إنها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه. قال إبليس: فإن ربك أرسل عليها ناراً من السماء فاحترقت ورعاؤها كلها وتركت الناس مبهوتين متعجبين منها. فمن قائل يقول: ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور، ومن قائل يقول: لو كان إله أيوب يقدر على شيء لمنع من وليه، ومن قائل آخر يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت عدوه به ويفجع به صديقه. فقال أيوب عليه السلام: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود في التراب، وعرياناً أحشر إلى الله تعالى، ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيداً وآجرني فيك، ولكن الله علم منك شراً فأخرك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً. فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه، فقال إبليس: فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها. فخرج إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول: ورد عليه أيوب الرد الأول، فرجع إبليس صاغراً. فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه، قال فاذهب إلى الحرث والثيران فأتاهم فأهلكهم ثم رجع إبليس متمثلاً حتى جاء أيوب وهو يصلي، فقال مثل قوله الأول فرد عليه أيوب الرد الأول، فجعل إبليس يصيب أمواله شيئاً فشيئاً حتى أتى على جميعها. فلما رأى إبليس صبره على ذلك وقف الموقف الذي كان يقفه عند الله تعالى، وقال: يا إلهي هل أنت مسلطي على ولده، فإنها الفتنة المضلة. فقال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ولده، فأتى أولاد أيوب في قصرهم فلم يزل يزلزله بهم من قواعده حتى قلب القصر عليهم، ثم جاء إلى أيوب متمثلاً بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه، فقال: لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب عليه السلام وبكى وقبض قبضة من التراب ووضعها على رأسه، فاغتنم ذلك إبليس، ثم لم يلبث أيوب عليه السلام حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال: يا إلهي إنما يهون على أيوب خطر المال والولد، لعلمه أنك تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك، فقال تعالى: انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه فانقض عدو الله سريعاً فوجد أيوب عليه السلام ساجداً لله تعالى فأتاه من قبل الأرض فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وخرج به من فرقه إلى قدمه ثآليل وقد وقعت فيه حكة لا يملكها، وكان يحك بأظفاره حتى سقطت أظفاره، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم بالفخار والحجارة، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير ونتن، فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشاً ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت افرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره، ثم إن وهبا طول في الحكاية إلى أن قال: إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثاً متضرعاً إليه فقال: يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، ويا ليتني كنت عرفت الذنب الذي أذنبته، والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني، ألم أكن للغريب داراً، وللمسكين قراراً، ولليتيم ولياً، وللأرملة قيماً، إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضاً، وللفتنة نصباً، وسلطت علي ما لو سلطته على جبل لضعف من حمله. إلهي تقطعت أصابعي، وتساقطت لهواتي، وتناثر شعري وذهب المال، وصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها علي ويعيرني بفقري وهلاك أولادي. قال الإمام أبو القاسم الأنصاريرحمه الله ، وفي جملة هذا الكلام: ليتك لو كرهتني لم تخلقني، ثم قال: ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنمه إبليس، فإن قصده أن يحمله على الشكوى، وأن يخرجه عن حلية الصابرين، والله تعالى لم يخبر عنه إلا قوله: { أَنّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } ثم قال: { { إِنَّا وَجَدْنَـٰهُ صَابِراً نّعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 44] واختلف العلماء في السبب الذي قال لأجله: { أَنّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } وفي مدة بلائه. فالرواية الأولى: روى ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان ويروحان إليه، فقال أحدهما للآخر ذات يوم: والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ فقال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى ولم يكشف ما به. فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب عليه السلام. فقال أيوب: ما أدري ما تقولون، غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله عز وجل فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق" . وفي رواية أخرى: "أن الرجلين لما دخلا عليه وجدا ريحاً فقالا: لو كان لأيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة، قال: فما شق على أيوب شيء مما ابتلى به أشد مما سمع منهما، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعاناً وأنا أعلم بمكان جائع فصدقني فصدقه وهما يسمعان، ثم خر أيوب عليه السلام ساجداً ثم قال: اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي قال فكشف الله ما به" . الرواية الثانية: قال الحسنرحمه الله : مكث أيوب عليه السلام بعد ما ألقى على الكناسة سبع سنين وأشهراً، ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته رحمة صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام وتحمد الله تعالى مع أيوب وكان أيوب مواظباً على حمد الله تعالى والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه، فصرخ إبليس صرخة جزعاً من صبر أيوب، فاجتمع جنوده من أقطار الأرض وقالوا له ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فلم أدع له مالاً ولا ولداً ولم يزدد بذلك إلا صبراً وحمداً لله تعالى، ثم سلطت على جسده فتركته ملقى في كناسة وما يقربه إلا امرأته، وهو مع ذلك لا يفتر عن الذكر والحمد لله، فاستعنت بكم لتعينوني عليه فقالوا له: أين مكرك! أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا علي، قالوا: أدليت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال من قبل امرأته، قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم فانطلق حتى أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده، فلما سمعها طمع أن يكون ذلك كله جزعاً، فوسوس إليها وذكرها ما كان لها من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه. قال الحسنرحمه الله : فصرخت، فلما صرخت علم أنها قد جزعت فأتاها بسخلة، وقال ليذبح هذه لي أيوب ويبرأ، قال: فجاءت تصرخ إلى أيوب يا أيوب حتى متى يعذبك ربك، ألا يرحمك أين المال، أين الماشية، أين الولد، أين الصديق، أين اللون الحسن، أين جسمك الذي قد بلى وصار مثل الرماد، وتردد فيه الدواب أذبح هذه السخلة واسترح؟ فقال أيوب عليه السلام: أتاك عدو الله ونفخ فيك فأجبتيه! ويلك أترين ما تبكين عليه مما تذكرين مما كنا فيه من المال والولد والصحة، من أعطانا ذلك؟ قالت الله. قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر، قال ويلك، والله ما أنصفت ربك، ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة. والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة. أمرتيني أن أذبح لغير الله، وحرام علي أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به، فطردها فذهبت، فلما نظر أيوب في شأنه وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق، وقد ذهبت امرأته خر ساجداً، وقال: { رَبِّ إِنّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } فقال: ارفع رأسك فقد استجبت لك { ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ } فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها، فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت منه، ثم ضرب برجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحاً، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن ما كان، ثم كسى حلة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من الأهل والولد والمال، إلا وقد ضعفه الله تعالى حتى صار أحسن مما كان، حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب، قال: فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها، قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعاً وتأكله السباع لأرجعن إليه، فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ولا تلك الحال وإذا بالأمور قد تغيرت، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب عليه السلام، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه وتسأله عنه فأرسل إليها أيوب عليه السلام ودعاها وقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلي الذي كان ملقى على الكناسة، فقال لها أيوب عليه السلام: ما كان منك، فبكت وقالت بعلي، فقال: أتعرفينه إذا رأيتيه، قالت وهل يخفى على أحد يراه! فتبسم وقال: أنا هو، فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال إنك أمرتيني أن أذبح سخلة لإبليس، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله تعالى فرد علي ما ترين. الرواية الثالثة: قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات وقال وهبرحمه الله بقي في البلاء ثلاث سنين، فلما غلب أيوب إبليس لعنه الله ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها: أنت صاحبة أيوب؟ قالت: نعم، قال: فهل تعرفيني؟ قالت لا: قال: أنا إله الأرض أنا صنعت بأيوب ما صنعت، وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك وعليه جميع مالكما من مال وولد فإن ذلك عندي، قال وهب وسمعت أنه قال: لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم الله تعالى لعوفي مما هو فيه من البلاء، وفي رواية أخرى: بل قال لها لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك، فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها، فقال لها أيوب: أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجدلنك مائة جلدة، وقال عند ذلك { مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ } يعني من طمع إبليس في سجودي له وسجود زوجتي ودعائه إياها وإياي إلى الكفر. الرواية الرابعة: قال وهب: كانت امرأة أيوب عليه السلام تعمل للناس وتأتيه بقوته، فلما طال عليه البلاء سئمها الناس فلم يستعملوها فالتمست ذات يوم شيئاً من الطعام فلم تجد شيئاً فجزت قرناً من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها: أين قرنك فأخبرته بذلك، فحينئذ قال: { مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ }. الرواية الخامسة: قال إسماعيل السدي: لم يقل أيوب مسني الضر إلا لأشياء ثلاث. أحدها: قول الرجلين له لو كان عملك الذي كنا نرى لله تعالى لما أصابك الذي أصابك. وثانيها: كان لامرأته ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزاً ولحماً فجاءت إلى أيوب عليه السلام فقال من أين هذا؟ فقالت: كل فإنه حلال فلما كان من الغد لم تجد شيئاً فباعت الثانية وكذلك فعلت في اليوم الثالث، وقالت: كل فإنه حلال فقال: لا آكل ما لم تخبريني فأخبرته، فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم، وقيل: إنما باعت ذوائبها لأن إبليس تمثل لقوم في صورة بشر، وقال: لئن تركتم أيوب في قريتكم فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فأخرجوه إلى باب البلد، ثم قال لهم: إن امرأته تدخل في بيوتكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته، فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها. وثالثها: حين قالت له امرأته ما قالت فحينئذ دعا. الرواية السادسة: قيل: سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها إلى موضعها، وقال قد جعلني الله تعالى طعمة لك فعضته عضة شديدة، فقال: مسني الضر. فأوحى الله تعالى إليه لولا أني جعلت تحت كل شعرة منك صبراً لما صبرت.

المسألة الثانية: إعلم أن المعتزلة قد طعنوا في هذه القصة من وجوه. أحدها: قال الجبائي: ذهب بعض الجهال إلى أن ما كان به من المرض كان فعلاً للشيطان سلطه الله عليه، لقوله تعالى حكاية عنه: { مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَـٰنُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } وهذا جهل، أما أولاً فلأنه لو قدر على إحداث الأمراض والأسقام وضدهما من العافية لتهيأ له فعل الأجسام، ومن هذا حاله يكون إلهاً، وأما ثانياً فلأن الله تعالى أخبر عنه وعن جنوده بأنه قال: { { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى } [إبراهيم: 22] والواجب تصديق خبر الله تعالى، دون الرجوع إلى ما يروى عن وهب بن منبه رضي الله عنه. واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف لأن المذكور في الحكاية أن الشيطان نفخ في منخره فوقعت الحكة فيه، فلم قلتم إن القادر على النفخة التي تولد مثل هذه الحكة لا بد وأن يكون قادراً على خلق الأجسام، وهل هذا إلا محض التحكم، وأما التمسك بالنص فضعيف لأنه إنما يقدم على هذا الفعل متى علم أنه لو أقدم عليه لما منعه الله تعالى عنه، وهذه الحالة لم تحصل إلا في حق أيوب عليه السلام على ما دلت الحكاية عليه من أنه استأذن الله تعالى فأذن له فيه، ومتى كان كذلك لم يبق بين ذلك النص وبين هذه الحكاية مناقضة. وثانيها: قالوا: ما روي أنه عليه السلام لم يسأل إلا عند أمور مخصوصة فبعيد، لأن الثابت في العقل أنه يحسن من المرء أن يسأل في ذلك ربه ويفزع إليه كما يحسن منه المداواة، وإذا جاز أن يسأل ربه عند الغم مما يراه من إخوانه وأهله جاز أيضاً أن يسأل ربه من قبل نفسه، فإن قيل: أفلا يجوز أنه تعالى تعبده بأن لا يسأل الكشف إلا في آخر أمره، قلنا: يجوز ذلك بأن يعلمه بأن إنزال ذلك به مدة مخصوصة من مصالحه ومصالح غيره لا محالة، فعلم عليه السلام أنه لا وجه للمسألة في هذا الأمر الخاص، فإذا قرب الوقت جاز أن يسأل ذلك، من حيث يجوز أن يدوم ويجوز أن ينقطع. وثالثها: قالوا: انتهاء ذلك المرض إلى حد التنفير عنه غير جائز، لأن الأمراض المنفرة من القبول غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام فهذا جملة ما قيل في هذه الحكاية.

المسألة الثالثة: قال صاحب «الكشاف» قوله تعالى: { أَنّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } أي ناداه بأني مسني الضر، وقرىء إني بالكسر على إضمار القول أو لتضمين النداء معناه، والضر بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال.

المسألة الرابعة: أنه عليه السلام ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب، فإن قيل: أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابراً. والجواب: قال سفيان بن عيينةرحمه الله من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء، ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ } [يوسف: 86] أما قوله: { وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرحِمِينَ } فالدليل على أنه سبحانه: { أَرْحَمُ ٱلرحِمِينَ } أمور. أحدها: أن كل من رحم غيره فأما أن يرحمه طلباً للثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو دفعاً للرقة الجنسية عن الطبع، وحينئذ يكون مطلوب ذلك الراحم منفعة نفسه، أما الحق سبحانه فإنه يرحم عباده من غير وجه من هذه الوجوه، ومن غير أن يعود إليه من تلك الرحمة زيادة ولا نقصان من الثناء ومن صفات الكمال، فكان سبحانه أرحم الراحمين. وثانيها: أن كل من يرحم غيره فلا يكون ذلك إلا بمعونة رحمة الله تعالى لأن من أعطى غيره طعاماً أو ثوباً أو دفع عنه بلاء، فلولا أنه سبحانه خلق المطعوم والملبوس والأدوية والأغذية وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء، ثم بعد وصول تلك العطية إليه، فلولا أنه سبحانه جعله سبباً للراحة لما حصل النفع بذلك، فإذاً رحمة العباد مسبوقة برحمة الله تعالى وملحوقة برحمته بل رحمتهم فيما بين الطرفين كالقطرة في البحر، فوجب أن يكون تعالى هو أرحم الراحمين. وثالثها: أن الله تعالى لو لم يخلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور ذلك الفعل عنه، فكان الراحم هو الحق سبحانه، من حيث إنه هو الذي أنشأ تلك الداعية، فثبت أنه أرحم الراحمين فإن قيل كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه سبحانه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام وسلط البعض على البعض بالذبح والكسر والإيذاء، وكان قادراً على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وإيذائه؟ والجواب: أن كونه سبحانه ضاراً لا ينافي كونه نافعاً، بل هو الضار النافع فإضراره ليس لدفع مشقة وإنفاعه ليس لجلب منفعة، بل لا يسأل عما يفعل.

أما قوله تعالى: { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ } فإنه يدل على أنه دعا ربه، لكن هذا الدعاء قد يجوز أن يكون واقعاً منه على سبيل التعريض، كما يقال إن رأيت أو أردت أو أحببت فافعل كذا. ويجوز أن يكون على سبيل التصريح وإن كان الأليق بالأدب وبدلالة الآية هو الأول، ثم إنه سبحانه بين أن كشف ما به من ضر وذلك يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله، وبين الله تعالى أنه آتاه أهله ويدخل فيه من ينسب إليه من زوجة وولد وغيرهما ثم فيه قولان: أحدهما: وهو قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والكلبي وكعب رضي الله عنهم أن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم. والثاني: روى الليث رضي الله عنه، قال: أرسل مجاهد إلى عكرمة وسأله عن الآية فقال: قيل له إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا. فقال: يكونون لي في الآخرة وأوتي مثلهم في الدنيا. والقول الأول أولى لأن قوله: { وآتيناه أهله } يدل بظاهره على أنه تعالى أعادهم في الدنيا وأعطاه معهم مثلهم أيضاً.

وأما قوله تعالى: { وَذِكْرَىٰ لِلْعَـٰبِدِينَ } ففيه دلالة على أنه تعالى فعل ذلك لكي يتفكر فيه فيكون داعية للعابدين في الصبر والإحتساب، وإنما خص العابدين بالذكر[ى] لأنهم يختصون بالانتفاع بذلك.