التفاسير

< >
عرض

لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٣٣
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ
٣٤
ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلَٰوةِ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ
٣٥
-الحج

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن قوله تعالى: { لَكُمْ فِيهَا مَنَـٰفِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } لا يليق إلا بأن تحمل الشعائر على الهدي الذي فيه منافع إلى وقت النحر، ومن يحمل ذلك على سائر الواجبات يقول لكم فيها أي في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده، والأول هو قول جمهور المفسرين، ولا شك أنه أقرب. وعلى هذا القول فالمنافع مفسرة بالدر والنسل والأوبار وركوب ظهورها، فأما قوله { إلى أجل مسمى } ففيه قولان: أحدهما: أن لكم أن تنتفعوا بهذه البهائم إلى أن تسموها ضحية وهدياً فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك وقال آخرون { لكم فيها } أي في البدن { منافع } مع تسميتها هدياً بأن تركبوها إن احتجتم إليها وأن تشربوا ألبانها إذا اضطررتم إليها { إلى أجل مسمى } يعني إلى أن تنحروها هذه هي الرواية الثانية عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو اختيار الشافعي، وهذا القول أولى لأنه تعالى قال: { لَكُمْ فِيهَا مَنَـٰفِعُ } أي في الشعائر ولا تسمى شعائر قبل أن تسمى هدياً وروى أبو هريرة أنه عليه السلام " مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد، فقال عليه السلام اركبها فقال يا رسول الله إنها هدى فقال اركبها ويلك " وروى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهراً " واحتج أبو حنيفةرحمه الله على أنه لا يملك منافعها بأن لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكاً لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات، وهذا ضعيف لأن أم الولد لا يمكنه بيعها، ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا.

أما قوله تعالى: { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } فالمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافع محلها إلى البيت العتيق أي وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت، كقوله: { { هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [المائدة:95] وبالجملة فقوله: { مَحِلُّهَا } يعني حيث يحل نحرها، وأما البيت العتيق فالمراد به الحرم كله، ودليله قوله تعالى: { { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [التوبة: 28] أي الحرم كله فالمنحر على هذا القول كل مكة، ولكنها تنزهت عن الدماء إلى منى ومنى من مكة، قال عليه السلام: " كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر " قال القفال هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت منى فأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه.

أما قوله تعالى: { وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ } فالمعنى شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من عهد إبراهيم عليه السلام إلى من بعده ضرباً من القربان وجعل العلة في ذلك أن يذكروا اسم الله تقدست أسماؤه على المناسك، وما كانت العرب تذبحه للصنم يسمى العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً منسكاً بكسر السين وقرأ الباقون بالفتح وهو مصدر بمعنى النسك والمكسور بمعنى الموضع.

أما قوله تعالى: { فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } ففي كيفية النظم وجهان: أحدهما: أن الإله واحد وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح الثاني: { فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله { فَلَهُ أَسْلِمُواْ } أي اخلصوا له الذكر خاصة بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة، والمراد الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه، ومن انقاد له كان مخبتاً فلذلك قال بعده { وَبَشّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ } والمخبت المتواضع الخاشع. قال أبو مسلم: حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض، يقال أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال أنجد وأشأم وأتهم، والخبت هو المطمئن من الأرض. وللمفسرين فيه عبارات أحدها: المخبتين المتواضعين عن ابن عباس وقتادة وثانيها: المجتهدين في العبادة عن الكلبي وثالثها: المخلصين عن مقاتل ورابعها: الطمئنين إلى ذكر الله تعالى والصالحين عن مجاهد وخامسها: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا عن عمرو بن أوس.

ثم وصفهم الله تعالى بقوله: { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فيظهر عليهم الخوف من عقاب الله تعالى والخشوع والتواضع لله، ثم لذلك الوجل أثران أحدهما: الصبر على المكاره وذلك هو المراد بقوله: { وَٱلصَّـٰبِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ } وعلى ما يكون من قبل الله تعالى، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن والمصائب. فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة والثاني: الاشتغال بالخدمة وأعز الأشياء عند الإنسان نفسه وماله. أما الخدمة بالنفس فهي الصلاة، وهو المراد بقوله: { والمقيمي الصلاة } وأما الخدمة بالمال فهو المراد من قوله: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قرأ الحسن { والمقيمي الصلاة } بالنصب على تقدير النون، وقرأ ابن مسعود والمقيمين الصلاة على الأصل.