التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٧٧
وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
٧٨
-الحج

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه سبحانه لما تكلم في الإلهيات ثم في النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع وهو من أربع أوجه أولها: تعيين المأمور وثانيها: أقسام المأمور به وثالثها: ذكر ما يوجب قبول تلك الأوامر ورابعها: تأكيد ذلك التكليف.

أما النوع الأول: وهو تعيين المأمور فهو قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } وفيه قولان: أحدهما: المراد منه كل المكلفين سواء كان مؤمناً أو كافراً، لأن التكليف بهذه الأشياء عام في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمنين بذلك والثاني: أن المراد بذلك المؤمنون فقط أما أولاً: فلأن اللفظ صريح فيه، وأما ثانياً: فلأن قوله بعد ذلك { هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ } وقوله: { هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ } وقوله: { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ } كل ذلك لا يليق إلا بالمؤمنين. أقصى ما في الباب أن يقال لما كان ذلك واجباً على الكل فأي فائدة في تخصيص المؤمنين؟ لكنا نقول تخصيصهم بالذكر لا يدل على نفي ذلك عما عداهم بل قد دلت هذه الآية على كونهم على التخصيص مأمورين بهذه الأشياء ودلت سائر الآيات على كون الكل مأمورين بها. ويمكن أن يقال فائدة التخصيص أنه لما جاء الخطاب العام مرة بعد أخرى ثم إنه ما قبله إلا المؤمنون خصهم الله تعالى بهذا الخطاب ليكون ذلك كالتحريض لهم على المواظبة على قبوله وكالتشريف لهم في ذلك الإقرار والتخصيص.

أما النوع الثاني: وهو المأمور به فقد ذكر الله أموراً أربعة: الأول: الصلاة وهو المراد من قوله: { ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ } وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود والصلاة هي المختصة بهذين الركنين فكان ذكرهما جارياً مجرى ذكر الصلاة وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس في أول إسلامهم كانوا يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية الثاني: قوله: { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: اعبدوه ولا تعبدوا غيره وثانيها: واعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات وثالثها: افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات على وجه العبادة لأنه لا يكفي أن يفعل فإنه ما لم يقصد به عبادة الله تعالى لا ينفع في باب الثواب فلذلك عطف هذه الجملة على الركوع والسجود الثالث: قوله تعالى: { وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد به صلة الرحم ومكارم الأخلاق والوجه عندي في هذا الترتيب أن الصلاة نوع من أنواع العبادة والعبادة نوع من أنواع فعل الخير، لأن فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة على الفقراء وحسن القول للناس فكأنه سبحانه قال كلفتكم بالصلاة بل كلفتكم بما هو أعم منها وهو العبادة بل كلفتكم بما هو أعم من العبادة وهو فعل الخيرات.

أما قوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فقيل معناه لتفلحوا، والفلاح الظفر بنعيم الآخرة، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري لعل كلمة للترجية فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير وليس هو على يقين من أن الذي أتي به هل هو مقبول عند الله تعالى والعواقب أيضاً مستورة «وكل ميسر لما خلق له» الرابع: قوله تعالى: { وَجَـٰهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَـٰدِهِ } قال صاحب «الكشاف» { فِى ٱللَّهِ } أي في ذات الله، ومن أجله. يقال هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقاً وجداً ومنه { حَقَّ جِهَـٰدِهِ } وههنا سؤالات:

السؤال الأول: ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال: { وَجَـٰهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَـٰدِهِ }؟ والجواب: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه.

السؤال الثاني: ما هذا الجهاد؟ الجواب: فيه وجوه: أحدها: أن المراد قتال الكفار خاصة، ومعنى { حَقَّ جِهَـٰدِهِ } أن لا يفعل إلا عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الإسم أو الغنيمة والثاني: أن يجاهدوا آخراً كما جاهدوا أولاً فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ { وَجَـٰهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَـٰدِهِ } في آخر الزمان كما جاهدتموه في أوله، فقال عبد الرحمن ومتى ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء، واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن وإلا لنقل كنقل نظائره، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة. فقال عمر من الذي أمرنا بجهاده؟ فقال قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس، فقال صدقت والثالث: قال ابن عباس: حق جهاده، لا تخافوا في الله لومة لائم والرابع: قال الضحاك: واعملوا لله حق عمله والخامس: استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حقوقه بالحرب باليد واللسان وجميع ما يمكن وردوا أنفسكم عن الهوى والميل والوجه السادس: قال عبدالله ابن المبارك: حق جهاده، مجاهدة النفس والهوى. ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك قال: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " والأولى أن يحمل ذلك على كل التكاليف، فكل ما أمر به ونهى عنه فالمحافظة عليه جهاد.

السؤال الثالث: هل يصح ما نقل عن مقاتل والكلبي أن هذه الآية منسوخة بقوله: { { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] كما أن قوله: { { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102] منسوخ بذلك؟ الجواب: هذا بعيد لأن التكليف مشروط بالقدرة لقوله تعالى: { { لاَ يُكَلّفُ الِلَّهِ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة:286] فكيف يقول الله وجاهدوا في الله على وجه لا تقدرون عليه، وكيف وقد كان الجهاد في الأول مضيقاً حتى لا يصح أن يفر الواحد من عشرة، ثم خففه الله بقوله: { { الآن خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } [الأنفال: 66] أفيجوز مع ذلك أن يوجبه على وجه لا يطاق حتى يقال إنه منسوخ.

النوع الثالث: بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر وهو ثلاثة: الأول: قوله: { هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ } ومعناه أن التكليف تشريف من الله تعالى للعبد، فلما خصكم بهذا التشريف فقد خصكم بأعظم التشريفات واختاركم لخدمته والاشتغال بطاعته، فأي رتبة أعلى من هذا، وأي سعادة فوق هذا، ويحتمل في اجتباكم خصكم بالهداية والمعونة والتيسير.

أما قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ } فهو كالجواب عن سؤال يذكر وهو أن التكليف وإن كان تشريفاً واجباً كما ذكرتم لكنه شاق شديد على النفس؟ فأجاب الله تعالى عنه بقوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ } روي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال كيف قال الله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ } مع أنه منعنا عن الزنا والسرقة؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: بلى ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم، وههنا سؤالات:

السؤال الأول: ما الحرج في أصل اللغة؟ الجواب: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لبعض هذيل ما تعدون الحرج فيكم؟ قال الضيق، وعن عائشة رضي الله عنها: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال الضيق " .

السؤال الثاني: ما المراد من الحرج في الآية؟ الجواب: قيل هو الإتيان بالرخص، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً ومن لم يستطع ذلك فليؤم، وأباح للصائح الفطر في السفر والقصر فيه. وأيضاً فإنه سبحانه لم يبتل عبده بشيء من الذنوب إلا وجعل له مخرجاً منها إما بالتوبة أو بالكفارة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه من جاءته رخصة فرغب عنها كلف يوم القيامة أن يحمل ثقل تنين حتى يقضي بين الناس» وعن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا اجتمع أمران فأحبهما إلى الله تعالى أيسرهما " وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاثاً لم يعطهم إلا للأنبياء: «جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال أدعوني أستجب لكم».

السؤال الثالث: استدلت المعتزلة بهذه الآية في المنع من تكليف مالا يطاق، فقالوا: لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي ثم نهاه عنهما كان ذلك من أعظم الحرج وذلك منفي بصريح هذا النص والجواب: لما أمره بترك الكفر وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلاً فقد أمر الله المكلف بقلب علم الله جهلاً وذلك من أعظم الحرج، ولما استوى القدمان زال السؤال.

الموجب الثاني: لقبول التكليف قوله: { مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰهِيمَ هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } وفي نصب الملة وجهان: أحدهما: وهو قول الفراء أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والثاني: أن يكون منصوباً على المدح والتعظيم أي أعني بالدين ملة أبيكم إبراهيم، واعلم أن المقصود من ذكره التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والعرب كانوا محبين لإبراهيم عليه السلام لأنهم من أولاده، فكان التنبيه على ذلك كالسبب لصيروتهم منقادين لقبول هذا الدين وههنا سؤالات:

السؤال الأول: لم قال: { مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰهِيمَ } ولم يدخل في الخطاب المؤمنون الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن من ولده؟ والجواب: من وجهين: أحدهما: لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب جاز ذلك وثانيهما: وهو قول الحسن أن الله تعالى جعل حرمة إبراهيم عليه السلام على المسلمين كحرمة الوالد على ولده، ومنه قوله تعالى { { ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب: 6] فجعل حرمته كحرمة الوالد على الولد، وحرمة نسائه كحرمة الوالدة على ما قال تعالى: { { وَأَزْوٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ } [الأحزاب: 6].

السؤال الثاني: هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم عليهما السلام سواء، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ويؤكده قوله تعالى: { { أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ } [النحل:123]، الجواب: هذا الكلام إنما وقع مع عبدة الأوثان، فكأنه تعالى قال: عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم فأما تفاصيل الشرائع فلا تعلق لها بهذا الموضع.

السؤال الثالث: ما معنى قوله تعالى: { هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ }؟ الجواب: فيه قولان: أحدهما: أن الكناية راجعة إلى إبراهيم عليه السلام، فإن لكل نبي دعوة مستجابة وهو قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: { { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة: 128] فاستجاب الله تعالى له فجعلها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الله تعالى سيبعث محمداً بمثل ملته وأنه ستسمى أمته بالمسلمين والثاني: أن الكناية راجعة إلى الله تعالى في قوله: { هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ } فروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن الله سماكم المسلمين من قبل» أي في كل الكتب، وفي هذا أي في القرآن. وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى قال: { لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ } فبين أنه سماهم بذلك لهذا الغرض وهذا لا يليق إلا بالله، ويدل عليه أيضاً قراءة أبي بن كعب { ٱللَّه سَمَّـٰكُمُ } والمعنى أنه سبحانه في سائر الكتب المتقدمة على القرآن، وفي القرآن أيضاً بين فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم، لأجل الشهادة المذكورة. فلما خصكم الله بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه. وهذا هو العلة الثالثة: الموجبة لقبول التكليف، وأما الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيداً علينا، وكيف تكون أمته شهداء على الناس؟ فقد تقدم في سورة البقرة، وبينا أنه أخذ منه ما يدل على أن الإجماع حجة.

النوع الرابع: شرح ما يجري مجرى المؤكد لما مضى، وهو قوله: { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ويجب صرفها إلى المفروضات لأنها هي المعهودة { واعتصموا بالله } أي بدلائله العقلية والسمعية وألطافه وعصمته، قال ابن عباس: «سلوا الله العصمة عن كل المحرمات» وقال القفال: اجعلوا الله عصمة لكم مما تحذرون هو مولاكم وسيدكم المتصرف فيكم فنم المولى ونعم البصير، فكأنه سبحانه قال أنا مولاك بل أنا ناصرك وحسبك، واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآيات من وجوه: أحدها: أن قوله: { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ } يدل على أنه سبحانه أراد الإيمان من الكل، لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلاً مرضياً، فإذا أراد أن تكونوا شهداء على الناس فقد أراد تكونوا جميعاً صالحين عدولاً، وقد علمنا أن منهم فاسقاً، فدل ذلك على أن الله تعالى أراد من الفسق كونه عدلاً وثانيها: قوله: { وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ } وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه؟ وثالثها: قوله: { فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ } لأنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى، بل كان لا يوجد من شرار الموالي أحد إلا وهو شر منه. فكان يجب أن يوصف بأنه بئس المولى وذلك باطل فدل على أنه سبحانه ما أراد من جميعهم إلا الصلاح. فإن قيل لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة؟ قلنا إنه تعالى مولى المؤمنين والكافرين جميعاً فيجب أن يقال إنه نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين. فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم الله تعالى، ورابعها: أن قوله: { سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله تعالى لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه الخصوص. والجواب: عن الأول وهو قوله كونه تعالى مريداً لكونه شاهداً يستلزم كونه مريداً لكونه عدلاً، فنقول: إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر توجب أن تكون مستلزمة لإرادة جهل الله تعالى فيلزم كونه تعالى مريداً لجهل نفسه. وإن لم يكن ذلك واجباً سقط الكلام.

وأما قوله: { وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ } فيقال هذا أيضاً وارد عليكم فإنه سبحانه خلق الشهوة في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهي وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه الشياطين من الإنس والجن وعلم أنه لا محالة يقع في الفجور والضلال، وفي الشاهد كل من فعل ذلك فإنه يكون بئس المولى، فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازم عليكم وإن بطل سقط كلامكم بالكلية.