التفاسير

< >
عرض

وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ
١٨
فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
١٩
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ
٢٠
-المؤمنون

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن الماء في نفسه نعمة وأنه مع ذلك سبب لحصول النعم فلا جرم ذكره الله تعالى أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً.

أما قوله تعالى: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمآء مَآءً بِقَدَرٍ } فقد اختلفوا في السماء فقال الأكثرون من المفسرين إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء وهو الظاهر من اللفظ ويؤكده قوله: { { وَفِي ٱلسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22] وقال بعضهم المراد السحاب وسماه سماء لعلوه، والمعنى أن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم إن تلك الذرات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله تعالى على قدر الحاجة إليه، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ولا بماء البحار لملوحته ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض لأن البحار هي الغاية في العمق، واعلم أن هذه الوجوه إنما يتمحلها من ينكر الفاعل المختار فأما من أقربه فلا حاجة به إلى شيء منها.

أما قوله تعالى: { بِقَدَرٍ } فمعناه بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة في الزرع والغرس والشرب، أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم.

أما قوله: { فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلأَرْضِ } قيل معناه جعلناه ثابتاً في الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج ويرفع أيضاً القرآن.

أماقوله: { وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَـٰدِرُونَ } أي كما قدرنا على إنزاله فكذلك نقدر على رفعه وإزالته، قال صاحب «الكشاف» وقوله: { عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ } من أوقع النكرات وأخرها للفصل. والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يعسر عليه شيء وهو أبلغ في الإيعاد من قوله: { { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ } [الملك: 30] ثم إنه سبحانه لما نبه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال: { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـٰتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـٰبٍ } وإنما ذكر تعالى النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الأدام ومقام الفواكه رطباً ويابساً وقوله: { لَّكُمْ فِيهَا فَوٰكِهُ كَثِيرَةٌ } أي في الجنات، فكما أن فيها النخيل والأعناب ففيها الفواكه الكثيرة وقوله: { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } قال صاحب «الكشاف» يجوز أن يكون هذا من قولهم فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يعملها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها تتعيشون.

أما قوله تعالى: { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء } فهو عطف على جنات وقرئت مرفوعة على الابتداء أي ومما أنشأنا لكم شجرة، قال صاحب «الكشاف» طور سيناء وطور سينين لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس وبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث لأنها بقعة وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن فتح لم يصرفه لأن ألفه للتأنيث كصحراء، وقيل هو جبل فلسطين وقيل بين مصر وأيلة، ومنه نودي موسى عليه السلام وقرأ الأعمش سينا على القصر.

أما قوله تعالى: { تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } فهو في موضع الحل أي تنبت وفيها الدهن، كما يقال ركب الأمير بجنده، أي ومعه الجند وقرىء تنبت وفيه وجهان: أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت قال زهير:

رأيت ذوي لحاجات حول بيوتهم قطيناً لهم حتى إذا أنبت البقل

والثاني: أن مفعوله محذوف، أي تنبت زيتونها وفيه الزيت، قال المفسرون: وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت ولأن معظمها هناك. أما قوله: { وَصِبْغٍ لّلاكِلِيِنَ } فعطف على الدهن، أي إدام للآكلين، والصبغ والصباغ ما يصطبغ به، أي يصبغ به الخبز، وجملة القول أنه سبحانه وتعالى نبه على إحسانه بهذه الشجرة، لأنها تخرج هذه الثمرة التي يكثر بها الانتفاع وهي طرية ومدخرة، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ويعظم وجوه الانتفاع به.

النوع الرابع: الاستدلال بأحوال الحيوانات.