التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً
٢٥
ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى ٱلْكَافِرِينَ عَسِيراً
٢٦
وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً
٢٧
يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً
٢٨
لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً
٢٩
-الفرقان

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن هذا الكلام مبني على ما استدعوه من إنزال الملائكة فبين سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له صفات:

الصفة الأولى: أن في ذلك اليوم تشقق السماء بالغمام، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله: { { إِذَا ٱلسَّمَاء ٱنفَطَرَتْ } [الانفطار: 1] يدل على التشقق وقوله: { { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ ٱلْغَمَامِ } [البقرة: 210] يدل على الغمام فقوله: { تَشَقَّقُ ٱلسَّمَاء بِٱلْغَمَـٰمِ } جامع لمعنى الآيتين ونظيره قوله تعالى: { { وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوٰباً } [النبأ: 19] وقوله: { { فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } [الحاقة: 16].

المسألة الثانية: قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بتخفيف الشين ههنا وفي سورة ق، والباقون بالتشديد، قال أبو عبيدة: الاختيار التخفيف كما يخفف تساءلون ومن شدد فمعناه تتشقق.

المسألة الثالثة: قال الفراء: المراد من قوله: { بِٱلْغَمَـٰمِ } أي عن الغمام، لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام، وقال القاضي: لا يمتنع أن يجعل تعالى الغمام بحيث تشقق السماء باعتماده عليه وهو كقوله: { { السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ } [المزمل: 18].

المسألة الرابعة: لا بد من أن يكون لهذا التشقق تعلق بنزول الملائكة، فقيل الملائكة في أيام الأنبياء عليهم السلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة والسماء على اتصالها، ثم في ذلك اليوم تتشقق السماء فإذا انشقت خرج من أن يكون حائلاً بين الملائكة وبين الأرض فنزلت الملائكة إلى الأرض.

المسألة الخامسة: قوله: { وَنُزّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } صيغة عموم فيتناول الكل، ولأن السماء مقر الملائكة فإذا تشقق وجب أن ينزلوا إلى الأرض، ثم قال مقاتل: تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر من سكان الدنيا، كذلك تتشقق سماء سماء، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش، ثم ينزل الرب تعالى. وروى الضحاك عن ابن عباس: قال تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصيرون سبع صفوف حول العالم، واعلم أن نزول الرب بالذات باطل قطعاً، لأن النزول حركة والموصوف بالحركة محدث والإله لا يكون محدثاً. وأما نزول الملائكة إلى الأرض فعليه سؤال، وذلك لأنه ثبت أن الأرض بالقياس إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة، فكيف بالقياس إلى الكرسي والعرش فملائكة هذه المواضع بأسرها كيف تتسع لهم الأرض جميعاً؟ فلعل الله تعالى يزيد في طول الأرض وعرضها ويبلغها مبلغاً يتسع لكل هؤلاء، ومن المفسرين من قال: الملائكة يكونون في الغمام منه، والله تعالى يسكن الغمام فوق أهل القيامة ويكون ذلك الغمام مقر الملائكة. قال الحسن: والغمام سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه بنسخ أعمال بني آدم والمحاسبة تكون في الأرض.

المسألة السادسة: أما نزول الملائكة فظاهر، ومعنى { تَنْزِيلاً } توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه.

المسألة السابعة: الألف واللام في الغمام ليس للعموم فهو للمعهود، والمراد ما ذكروه في قوله: { { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ } [البقرة: 210].

المسألة الثامنة: قرىء: { وَنُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ }، { وَنُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ }، { وَنُزّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ }، { وَنُزّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } { وَنُزّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل قراءة أهل مكة.

الصفة الثانية لذلك اليوم: قوله: { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنُ } قال الزجاج الحق صفة للملك وتقديره الملك الحق يومئذ للرحمن، ويجوز الحق بالنصب على تقدير أعني ولم يقرأ به ومعنى وصفه بكونه حقاً أنه لا يزول ولا يتغير، فإن قيل: مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن فما الفائدة في قوله { يَوْمَئِذٍ }؟ قلنا: لأن في ذلك اليوم لا مالك سواه لا في الصورة ولا في المعنى، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام، واعلم أن هذه الآية دالة على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على الله الثواب والعوض وذلك لأنه لو وجب لاستحق الذم بتركه فكان خائفاً من أن لا يفعل فلم يكن ملكاً مطلقاً وأيضاً فقوله: { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } يفيد أنه ليس لغيره ملك وذلك لا يتم على قول المعتزلة، لأن كل من استحق عليه شيئاً فإنه يكون مالكاً له، ولا يكون هو سبحانه مالكاً لذلك المستحق، لأنه سبحانه إذا استحق على أحد شيئاً أمكنه أن يعفو عنه، أما غيره إذا استحق عليه شيئاً فإنه لا يصح إبراؤه عنه، فكانت العبودية ههنا أتم، ولأن من كفر بالله إلى آخر عمره ثم في آخر عمره عرف الله لحظة ومات فهو سبحانه لو أعطاه ألف ألف سنة أنواع الثواب وأراد بعد ذلك أن لا يعطيه لحظة واحدة صار سفيهاً، وهذا نهاية العبودية والذل فكيف يليق بمن هذا حاله أن يقال له: { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } وأيضاً فكل من فعل فعلاً لو لم يفعله لكان مستوجباً للذم وكان بذلك الفعل مكتسباً للكمال وبتركه مكتسباً للنقصان فلم يكن ملكاً بل فقيراً مستحقاً، فثبت أن قوله سبحانه: { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } غير لائق بأصول المعتزلة.

الصفة الثالثة: قوله: { وَكَانَ يَوْماً عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ عَسِيراً } فالمعنى ظاهر لأنه تعالى عالم بالأحوال قادر على كل ما يريده وأما غيره فالكل في ربقة العجز ولجام القهر، فكان في نهاية العسر على الكافر.

الصفة الرابعة: قوله: { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الألف واللام في الظالم فيه قولان: أحدهما: أنه للعموم والثاني: أنه للمعهود، والقائلون بالمعهود على قولين: الأول: قال ابن عباس المراد عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس كان لا يقدم من مقر إلا صنع طعاماً يدعو إليه جيرته من أهل مكة ويكثر مجالسة الرسول ويعجبه حديثه فصنع طعاماً ودعا الرسول فقال صلى الله عليه وسلم ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين ففعل فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه فبلغ أمية بن خلف فقال صبوت يا عقبة وكان خليله فقال إنما ذكرت ذلك ليأكل من طعامي فقال لا أرضى أبداً حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ على عنقه ففعل، فقال عليه السلام لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فنزل { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } ندامة يعني عقبة يقول: يا ليتني لم أتخذ أمية خليلاً لقد أضلني عن الذكر. أي صرفني عن الذكر وهو القرآن والإيمان بعد إذ جاءني مع محمد صلى الله عليه وسلم فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبراً ولم يقتل يومئذ من الأسارى غيره وغير النضر بن الحارث الثاني: قالت الرافضة: هذا الظالم هو رجل بعينه وإن المسلمين غيروا اسمه وكتموه وجعلوا فلاناً بدلاً من اسمه، وذكروا فاضلين من أصحاب رسول الله، واعلم أن إجراء اللفظ على العموم ليس لنفس اللفظ، لأنا بينا في أصول الفقه أن الألف واللام إذا دخل على الاسم المفرد لا يفيد العموم بل إنما يفيده للقرينة من حيث إن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف، فدل ذلك على أن المؤثر في العض على اليدين كونه ظالماً وحينئذ يعم الحكم لعموم علته وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة لأن هذا الذي ذكرناه يقتضي العموم، ونزوله في واقعة أخرى خاصة لا ينافي أن يكون المراد هو العموم حتى يدخل فيه تلك الصورة وغيرها ولأن المقصود من الآية زجر الكل عن الظلم وذلك لا يحصل إلا بالعموم، وأما قول الرافضة فذلك لا يتم إلا بالطعن في القرآن وإثبات أنه غير وبدل ولا نزاع في أنه كفر.

المسألة الثانية: استدلت المعتزلة بقوله: { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } قالوا الظالم يتناول الكافر والفاسق، فدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة والكلام عليه تقدم.

المسألة الثالثة: قوله: { يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } قال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت، وقال أهل التحقيق هذه اللفظة مشعرة بالتحسر والغم، يقال عض أنامله وعض على يديه.

المسألة الرابعة: كما بينا أن الظالم غير مخصوص بشخص واحد بل يعم جميع الظلمة فكذا المراد بقوله فلاناً ليس شخصاً واحداً بل كل من أطيع في معصية الله، واستشهد القفال بقوله: { { وَكَانَ ٱلْكَـٰفِرُ عَلَىٰ رَبّهِ ظَهِيراً } [الفرقان: 55]، { { وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يَـٰلَيْتَنِى كُنتُ تُرٰباً } [النبأ: 40] يعني به جماعة الكفار.

المسألة الخامسة: قرىء { يا ويلتي } بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها: تعالى فهذا أوانك، وإنما قلبت الياء ألفاً كما في صحارى و (عذارى).

المسألة السادسة: قوله: { عَنِ ٱلذّكْرِ } أي عن ذكر الله أو القرآن وموعظة الرسول ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق (وغيرته) على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله سماه شيطاناً لأنه أضله كما يضل الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة، أو أراد إبليس فإنه هو الذي حمله على أن صار خليلاً لذلك المضل ومخالفة الرسول ثم خذله أو أراد الجنس وكل من تشيطن من الجن والإنس، ويحتمل أن يكون { وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ } حكاية كلام الظالم وأن يكون كلام الله.

ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى ٱلْكَافِرِينَ عَسِيراً (*)