التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ
٦
إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لأَهْلِهِ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
٧
فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨
يٰمُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٩
-النمل

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

أما قوله: { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } فمعناه لتؤتاه (وتلقاه) من عند أي حكيم وأي عليم، وهذا معنى مجيئهما نكرتين وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص، و(إذ) منصوب بمضمر وهو اذكر كأنه قال على أثر ذلك خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى، ويجوز أن ينتصب بعليم فإن قيل الحكمة أما أن تكون نفس العلم، والعلم إما أن يكون داخلاً فيها، فلما ذكر الحكمة فلم ذكر العلم؟ جوابه: الحكمة هي العلم بالأمور العملية فقط والعلم أعم منه، لأن العلم قد يكون عملياً وقد يكون نظرياً والعلوم النظرية أشرف من العلوم العملية، فذكر الحكمة المشتملة على العلوم العملية، ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم وكمال العلم يحصل من جهات ثلاثة وحدته وعموم تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصوناً عن كل التغيرات، وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه سبحانه وتعالى.

واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة أنواعاً من القصص.

القصة الأولى ـ قصة موسى عليه الصلاة والسلام

أما قوله: { إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لأَهْلِهِ } فيدل على أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته ابنة شعيب عليه السلام، وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله { { ٱمْكُثُواْ } [القصص: 29].

أما قوله: { إِنّى آنَسْتُ نَاراً } فالمعنى أنهما كانا يسيران ليلاً، وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء فلذلك بشرها فقال: { إِنّى آنَسْتُ نَاراً } وقد اختلفوا فقال بعضهم المراد أبصرت ورأيت، وقال آخرون بل المراد صادفت ووجدت فآنست به، والأول أقرب، لأنهم لا يفرقون بين قول القائل آنست ببصري ورأيت ببصري.

أما قوله: { سآتيكم منها بخبر } فالخبر ما يخبر به عن حال الطريق لأنه كان قد ضل، ثم في الكلام حذف وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها وقال: { سآتيكم منها بخبر } يعرف به الطريق.

أما قوله: { أو آتيكم بشهاب قبس } فالشهاب الشعلة والقبس النار المقبوسة. وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبساً وغير قبس ومن قرأ بالتنوين جعل القبس بدلاً أو صفة لما فيه من معنى القبس ثم ههنا أسئلة:

السؤال الأول: { سآتيكم منها بخبر } و { { لعلي آتيكم منها بخبر } [القصص: 29] كالمتدافعين لأن أحدهما ترج والآخر تيقن؟ نقول جوابه: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة.

السؤال الثاني: كيف جاء بسين التسويف؟ جوابه: عدة منه لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ أو كانت المسافة بعيدة.

السؤال الثالث: لماذا أدخل (أو) بين الأمرين وهلا جمع بينهما لحاجته إليهما معاً؟ جوابه: بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين ظفر بأحدهما، إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار ثقة بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده.

وأما قوله تعالى: { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } فالمعنى لكي تصطلون وذلك يدل على حاجة بهم إلى الاصطلاء وحينئذ لا يكون ذلك إلا في حال برد.

أما قوله تعالى: { نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ففيه أبحاث:

البحث الأول: { أن } أن هي المفسرة لأن النداء فيه معنى القول، والمعنى قيل له بورك.

البحث الثاني: اختلفوا فيمن في النار على وجوه: أحدها: { أَن بُورِكَ } بمعنى تبارك والنار بمعنى النور والمعنى تبارك من في النور، وذلك هو الله سبحانه { وَمَنْ حَوْلَهَا } يعني الملائكة وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وإن كنا نقطع بأن هذه الرواية موضوعة مختلفة وثانيها: { مَن فِى ٱلنَّارِ } هو نور الله، { وَمَنْ حَوْلَهَا } الملائكة، وهو مروي عن قتادة والزجاج وثالثها: أن الله تعالى ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة فكانت الشجرة محلاً للكلام، والله هو المكلم له بأن فعله فيه دون الشجرة. ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها ملائكة فلذلك قال: { بُورِكَ مَن فِى ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } وهو قول الجبائي ورابعها: { مَن فِى ٱلنَّارِ } هو موسى عليه السلام لقربه منها { مِنْ حَوْلَهَا } يعني الملائكة، وهذا أقرب لأن القريب من الشيء قد يقال إنه فيه وخامسها: قول صاحب «الكشاف»: { بُورِكَ مَن فِى ٱلنَّارِ } أي من في مكان النار ومن حول مكانها هي البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: { { مِن شَاطِىء ٱلْوَادِ ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ } [القصص: 30] ويدل عليه قراءة أبي (تباركت الأرض ومن حولها) وعنه أيضاً (بوركت النار).

البحث الثالث: السبب الذي لأجله بوركت البقعة، وبورك من فيها وحواليها حدوث هذا الأمر العظيم فيها وهو تكليم الله موسى عليه السلام وجعله رسولاً وإظهار المعجزات عليه ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله: { { وَنَجَّيْنَـٰهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء: 71] وحقت أن تكون كذلك فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي وكفاتهم أحياء وأمواتاً.

البحث الرابع: أنه سبحانه جعل هذا القول مقدمة لمناجاة موسى عليه السلام فقوله: { بُورِكَ مَن فِى ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } يدل على أنه قد قضى أمر عظيم تنتشر البركة منه في أرض الشام كلها. وقوله: { وَسُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فيه فائدتان: إحداهما: أنه سبحانه نزه نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام الثانية: أن يكون ذلك إيذاناً بأن ذلك الأمر مريده ومكونه رب العالمين تنبيهاً على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الوقائع.

أما قوله: { إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } فقال صاحب «الكشاف» الهاء في (إنه) يجوز أن يكون ضمير الشأن و { أَنَا ٱللَّهُ } مبتدأ وخبر، و { ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ } صفتان للخبر، وأن يكون راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله يعني أن مكلمك أنا والله بيان لأنا والعزيز الحكيم صفتان (للتعيين) وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية، الفاعل (كل) ما أفعله بحكمة وتدبير. فإن قيل هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى، فكيف علم موسى عليه السلام أنه من الله؟ جوابه: لأهل السنة فيه طريقان: الأول: أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات فعلم بالضرورة أنه صفة الله تعالى الثاني: قول أئمة ما وراء النهر وهو أنه عليه السلام سمع الصوت من الشجرة فنقول إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور: أحدها: أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة علم أنه من قبل الله تعالى لأن أحداً منا لا يقدر عليه وهو ضعف لاحتمال أن يقال الشيطان دخل في النار والشجرة ثم نادى وثانيها: يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً، وهو أيضاً ضعيف لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم وثالثها: أنه قد اقترن به معجز دل على ذلك، فقيل إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق فصار ذلك كالمعجز، وهذا هو الأصح، والله أعلم.