لما أتم الحكاية الثانية على وجه الاختصار لفائدة الاعتبار شرع في الثالثة وقال: { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَـٰهُمْ } واختلف المفسرون في مدين، فقال بعضهم إنه اسم رجل في الأصل وحصل له ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما، وقال بعضهم اسم ماء نسب القوم إليه، واشتهر في القوم، والأول كأنه أصح وذلك لأن الله أضاف الماء إلى مدين حيث قال:
{ { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } [القصص: 23] ولو كان اسماً للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقة والأصل في الإضافة التغاير حقيقة، وقوله: { أَخَـٰهُمْ } قيل لأن شعيباً كان منهم نسباً، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال الله تعالى في نوح:
{ { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ } [العنبكوت: 14] قدم نوحاً في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم ولوط، وههنا ذكر القوم أولاً وأضاف إليهم أخاهم شعيباً، فنقول الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن المرسل لا يبعث رسولاً إلى غير معين، وإنما يحصل قوم أو شخص يحتاجون إلى إنباء من المرسل فيرسل إليهم من يختاره غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها، فعرفوا بالنبـي فقيل قوم نوح وقوم لوط، وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله وقال الله: { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَـٰهُمْ شُعَيْباً } وقال: { { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } [الأعراف: 65]. المسألة الثانية: لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن شعيب ذلك؟ قلنا قد ذكرنا أن لوطاً كان له قوم وهو كان من قوم إبراهيم وفي زمانه، وإبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يذكره عن لوط وإنما ذكر منه ما اختص به من المنع عن الفاحشة وغيرها، وإن كان هو أيضاً يأمر بالتوحيد، إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد، وأما شعيب فكان بعد انقراض القوم فكان هو أصلاً أيضاً في التوحيد فدأبه وقال: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ }.
المسألة الثالثة: الإيمان لا يتم إلا بالتوحيد، والأمر بالعبادة لا يفيده لأن من يعبد الله ويعبد غيره فهو مشرك فكيف اقتصر على قوله: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ }؟ فنقول: هذا الأمر يفيد التوحيد، وذلك لأن من يرى غيره يخدم زيداً وعمرو هناك وهو أكبر أو هو سيد زيد، فإذا قال له أخدم عمراً يفهم منه أنه يأمره بصرف الخدمة إليه، وكذا إذا كان لواحد دينار واحد، وهو يريد أن يعطيه زيداً، فإذا قيل له أعطه عمراً يفهم منه لا تعطه زيداً، فنقول هم كانوا مشتغلين بعبادة غير الله والله مالك ذلك الغير فقال لهم شعيب: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } ففهموا منه ترك عبادة غيره أو نقول لكل واحد نفس واحدة ويريد وضعها في عبادة غير الله فقال لهم شعيب ضعوها في موضعها وهو عبادة الله ففهم منه التوحيد، ثم قال: { وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ } قال الزمخشري: معناه افعلوا ما ترجون به العاقبة إذ قد يقول القائل لغيره كن عاقلاً، ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلاً، وقوله: { وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ } فيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا يدل على صحة مذهبنا، فإن عندنا من عبد الله طول عمره يثيبه الله تفضلاً ولا يجب عليه ذلك لأن العابد قد وصل إليه من النعم ما لو زاد على ما أتى به لما خرج عن عهدة الشكر، ومن شكر المنعم على نعم سبقت لا يلزم المنعم أن يزيده، وإن زاده يكون إحساناً منه إليه وإنعاماً عليه، فنقول قوله: { وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ } بعد قوله: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } يدل على التفضل لا على الوجوب فإن الفضل يرجى والواجب من العادل يقطع به.
المسألة الثانية: قال: { وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ } ولم يقل وخافوه مع أن ذلك اليوم مخوف عند الكل وغير مرجو عند كثير من الناس، لفسقه وفجوره ومحبته الدنيا ولا يرجوه إلا قليل من عباده، فنقول لما ذكر التوحيد بطريق الإثبات وقال: { ٱعْبُدُواْ } ولم يذكره بطريق النفي وما قال ولا تعبدوا غيره قال بلفظ الرجاء لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين، وفيه وجه آخر وهو أن الله حكى في حكاية إبراهيم أنه قال إنكم اتخذتم الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فتكفرون بها، وقال ههنا لا تكونوا كالذين سبق ذكرهم لم يرجوا اليوم الآخر، فاقتصروا على مودة الحياة الدنيا، وارجوا اليوم الآخر واعملوا له، ثم قال: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } يمكن أن يقال نصب مفسدين على المصدر كما يقال قم قائماً أي قياماً ويكون قوله: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } كقول القائل إجلس قعوداً لأن العيث والفساد بمعنى، وجمع الأوامر والنواهي في قوله: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } وقوله: { وَلاَ تَعْثَوْاْ } ثم إن قومه كذبوه بعدما بلغ وبين، فحكى الله عنهم ذلك بقوله: { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما حكى عن شعيب أمر ونهي والأمر لا يصدق ولا يكذب، فإن من قال لغيره قم لا يصح أن يقول له كذبت، فنقول كان شعيب يقول الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه، وهذه الأشياء فيها إخبارات فكذبوه فيما أخبرهم به.
المسألة الثانية: قال ههنا وفي الأعراف (78):
{ { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } وقال في هود: (94): { { وأخذت الذين ظلموا الصيحة } والحكاية واحدة، نقول لا تعارض بينهما فإن الصيحة كانت سبباً للرجفة، إما لرجفة الأرض إذ قيل إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته، وإما لرجفة الأفئدة فإن قلوبهم ارتجفت منها، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب، إذ يصح أن يقال روى فقوي، وأن يقال شرب فقوي في صورة واحدة. المسألة الثالثة: حيث قال: { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ } قال: { فِى دِيَارِهِمْ } وحيث قال: { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } قال: { فِي دَارِهِمْ } فنقول المراد من الدار هو الديار، والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع، وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمن الالتباس، وإنما اختلف اللفظ للطيفة، وهي أن الرجفة هائلة في نفسها فلم يحتج إلى مهول، وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها لكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع، حتى تعلم هيبتها والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يحتج إلى معظم لأمرها، وقيل إن الصيحة كانت أعم حيث عمت الأرض والجو، والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هناك غير أن هذا ضعيف لأن الدار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة، فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم.