التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ
٥٤
-الروم

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

لما أعاد من الدلائل التي مضت دليلاً من دلائل الآفاق وهو قوله: { { ٱللَّهُ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَـٰحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } [الروم: 48] وذكر أحوال الريح من أوله إلى آخره أعاد دليلاً من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله، فقال: { خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } أي مبناكم على الضعف كما قال تعالى: { { خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } [الأنبياء: 37] ومن ههنا كما تكون في قول القائل فلان زين فلانا من فقره وجعله غنياً أي من حالة فقره، ثم قال تعالى: { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ } فقوله من ضعف إشارة إلى حالة كان فيها جنيناً وطفلاً مولوداً ورضيعاً ومفطوماً فهذه أحوال غاية الضعف، وقوله: { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ } إشارة إلى حالة بلوغه وانتقاله وشبابه واكتهاله، وقوله: { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ }.

إشارة إلى ما يكون بعد الكهولة من ظهور النقصان والشيبة هي تمام الضعف، ثم بين بقوله { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } إن هذا ليس طبعاً بل هو بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى في دلائل الآفاق { { فَيَبْسُطُهُ فِى ٱلسَّمَاء كَيْفَ يَشَاء } [الروم: 48] { هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ } لما قدم العلم على القدرة؟ وقال من قبل { { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الروم: 27] فالعزة إشارة إلى تمام القدرة والحكمة إلى العلم، فقدم القدرة هناك وقدم العلم على القدرة ههنا فنقول هناك المذكور الإعادة بقوله: { { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الروم: 27] لأن الإعادة تكون بكن فيكون، فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم ههنا أظهر، ثم إن قوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ } تبشير وإنذار لأنه إذا كان عالماً بأعمال الخلق كان عالماً بأحوال المخلوقات فإن عملوا خيراً علمه وإن عملوا شراً علمه، ثم إذا كان قادراً فإذا علم الخير أثاب وإذا علم الشر عاقب، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب الذين هما بالقدرة قدم العلم، وأما في الآخرة فالعلم بتلك الأحوال مع العقاب فقال: { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } وإلى مثل هذا أشار في قوله: { { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ } [المؤمنون: 14] عقيب خلق الإنسان، فنقول أحسن إشارة إلى العلم لأن حسن الخلق بالعلم، والخلق المفهوم من قوله: { ٱلْخَـٰلِقِينَ } إشارة إلى القدرة، ثم لما بين ذكر الإبداء والإعادة كالإبداء ذكره بذكر أحوالها وأوقاتها.