التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
١٠
-لقمان

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

ثم قال تعالى: { خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا }.

بين عزته وحكمته بقوله: { خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } اختلف قول العلماء في السموات فمنهم من قال إنها مبسوطة كصفيحة مستوية، وهو قول أكثر المفسرين ومنهم من قال إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين، والغزاليرحمه الله قال نحن نوافقهم في ذلك فإن لهم عليها دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز، وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله، فضلاً من أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحاً، بل فيه ما يدل على الاستدارة كما قال تعالى: { { كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء: 33] والفلك اسم لشيء مستدير، بل الواجب أن يقال بأن السموات سواء كانت مستديرة أو مصفحة فهي مخلوقة بقدرة الله لا موجودة بإيجاب وطبع، وإذا علم هذا فنقول السماء في مكان وهو فضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس إلا بقدرة مختارة وإليه الإشارة بقوله: { بِغَيْرِ عَمَدٍ } أي ليس على شيء يمنعها الزوال من موضعها وهي لا تزول إلا بقدرة الله تعالى وقال بعضهم المعنى أن السموات بأسرها ومجموعها لا مكان لها لأن المكان ما يعتمد عليه ما فيه فيكون متمكناً والحيز ما يشار إلى ما فيه بسببه يقال ههنا وهناك على هذا قالوا إن من يقع من شاهق جبل فهو في الهواء في حيز إذ يقال له هو ههنا وهناك، وليس في مكان إذ لا يعتمد على شيء، فإذا حصل على الأرض حصل في مكان، إذا علم هذا فالسماوات ليست في مكان تعتمد عليه فلا عمد لها وقوله: { تَرَوْنَهَا } فيه وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى السموات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد والثاني: أنه راجع إلى العمد أي بغير عمد مرئية، وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته.

ثم قال تعالى: { وَأَلْقَىٰ فِى ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كل زوج كريم }.

أي جبالاً راسية ثابتة { أَن تَمِيدَ } أي كراهية أن تميد وقيل المعنى أن لا تميد، واعلم أن الأرض ثباتها بسبب ثقلها، وإلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح، ولو خلقها مثل الرمل لما كانت تثبت للزراعة كما نرى الأراضي الرملة ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع، ثم قال تعالى: { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ } أي سكون الأرض فيه مصلحة حركة الدواب فأسكنا الأرض وحركنا الدواب ولو كانت الأرض متزلزلة وبعض الأراضي يناسب بعض الحيوانات لكانت الدابة التي لا تعيش في موضع تقع في ذلك الموضع فيكون فيه هلاك الدواب، أما إذا كانت الأرض ساكنة والحيوانات متحركة تتحرك في المواضع التي تناسبها وترعى فيها وتعيش فيها، ثم قال تعالى: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء } هذه نعمة أخرى أنعمها الله على عباده، وتمامها بسكون الأرض لأن البذر إذا لم يثبت إلى أن ينبت لم يكن يحصل الزرع ولو كانت أجزاء الأرض متحركة كالرمل لما حصل الثبات ولما كمل النبات، والعدول من المغايبة إلى النفس فيه فصاحة وحكمة، أما الفصاحة فمذكورة في باب الالتفات من أن السامع إذا سمع كلاماً طويلاً من نمط واحد، ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه ألا ترى أنك إذا قلت قال زيد كذا وكذا، وقال خالد كذا وكذا، وقال عمرو كذا ثم إن بكراً قال قولاً حسناً يستطاب لما قد تكرر القول مراراً. وأما الحكمة فمن وجهين أحدهما: أن خلق الأرض ثقيل، والسماء في غير مكان قد يقع لجاهل أنه بالطبع، وبث الدواب يقع لبعضهم أنه باختيار الدابة، لأن لها اختيار، فنقول الأول طبيعي والآخر اختياري للحيوان، ولكن لا يشك أحد في أن الماء في الهواء من جهة فوق ليس طبعاً فإن الماء لا يكون بطبعه فوق ولا اختياراً، إذ الماء لا اختيار له فهو بإرادة الله تعالى، فقال: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء } الثاني: هو أن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل زمان، متكثرة في كل مكان، فأسنده إلى نفسه صريحاً ليتنبه الإنسان لشكر نعمته فيزيد له من رحمته، وقوله تعالى: { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ } أي من كل جنس، وكل جنس فتحته زوجان، لأن النبات إما أن يكون شجراً، وإما أن يكون غير شجر، والذي هو الشجر إما أن يكون مثمراً، وإما أن يكون غير مثمر، والمثمر كذلك ينقسم قسمين، وقوله تعالى: { كَرِيمٌ } أي ذي كرم، لأنه يأتي كثيراً من غير حساب أو مكرم مثل بغض للمبغض.