التفاسير

< >
عرض

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ
١٣
-سبأ

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

المحاريب إشارة إلى الأبنية الرفيعة ولهذا قال تعالى: { { إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } [صۤ:21] والتماثيل ما يكون فيها من النقوش، ثم لما ذكر البناء الذي هو المسكن بين ما يكون في المسكن من ماعون الأكل فقال: { وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ } جمع جابية وهي الحوض الكبير الذي يجبـي الماء أي يجمعه وقيل كان يجتمع على جفنة واحدة ألف نفس { وَقُدُورٍ رسِيَـٰتٍ } ثابتات لا تنقل لكبرها، وإنما يغرف منها في تلك الجفان، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قدم المحاريب على التماثيل لأن النقوش تكون في الأبنية وقدم الجفان في الذكر على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل، فنقول: لما بين الأبنية الملكية أراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيه، وأما القدور فلا تكون فيه، ولا تحضر هناك، ولهذا قال: { رسِيَـٰتٍ } أي غير منقولات، ثم لما بين حال الجفان العظيمة، كان يقع في النفس أن الطعام الذي يكون فيها في أي شيء يطبخ، فأشار إلى القدور المناسبة للجفان.

المسألة الثانية: ذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب، وفي حق سليمان بحالة السلم وهي المساكن والمآكل وذلك لأن سليمان كان ولد داود، وداود قتل جالوت والملوك الجبابرة، واستوى داود على الملك، فكان سليمان كولد ملك يكون أبوه قد سوى على ابنه الملك وجمع له المال فهو يفرقه على جنوده، ولأن سليمان لم يقدر أحد عليه في ظنه فتركوا الحرب معه وإن حاربه أحد كان زمان الحرب يسيراً لإدراكه إياه بالريح فكان في زمانه العظمة بالإطعام والإنعام.

المسألة الثالثة: لما قال عقيب قوله تعالى: { أَنِ ٱعْمَلْ سَـٰبِغَـٰتٍ } { { اعملوا صالحاً } [سبأ: 11]، قال عقيب ما يعمله الجن: { ٱعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُودَ شُـكْراً } إشارة إلى ما ذكرنا أن هذه الأشياء حالية لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة فيها وإنما الواجب الذي ينبغي أن يكثر منه هو العمل الصالح الذي يكون شكراً، وفيه إشارة إلى عدم الالتفات إلى هذه الأشياء، وقلة الاشتغال بها كما في قوله: { { وَقَدِّرْ فِى ٱلسَّرْدِ } [سبأ: 11] أي اجعله بقدر الحاجة.

المسألة الرابعة: انتصاب شكراً يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون مفعولاً له كقول القائل جئتك طمعاً وعبدت الله رجاء غفرانه وثانيها: أن يكون مصدراً كقول القائل شكرت الله شكراً ويكون المصدر من غير لفظ الفعل كقول القائل جلست قعوداً، وذلك لأن العمل شكر فقوله: { ٱعْمَلُواْ } يقوم مقام قوله: { اشكروا } وثالثها: أن يكون مفعولاً به كقولك اضرب زيداً كما قال تعالى: { { وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً } [سبأ: 11] لأن الشكر صالح.

المسألة الخامسة: قوله: { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } إشارة إلى أن الله خفف الأمر على عباده، وذلك لأنه لما قال: { ٱعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُودَ شُـكْراً } فهم منه أن الشكر واجب لكن شكر نعمه كما ينبغي لا يمكن، لأن الشكر بالتوفيق وهو نعمة تحتاج إلى شكر آخر وهو بتوفيق آخر، فدائماً تكون نعمة الله بعد الشكر خالية عن الشكر، فقال تعالى: إن كنتم لا تقدرون على الشكر التام فليس عليكم في ذلك حرج، فإن عبادي قليل منهم الشكور ويقوي قولنا أنه تعالى أدخل الكل في قوله: { عِبَادِي } مع الإضافة إلى نفسه، وعبادي بلفظ الإضافة إلى نفس المتكلم لم ترد في القرآن إلا في حق الناجين، كقوله تعالى: { { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } [الزمر: 53] وقوله: { { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ } [الإسراء: 65] فإن قيل على ما ذكرتم شكر الله بتمامه لا يمكن وقوله: { قَلِيلٌ } يدل على أن في عباده من هو شاكر لأنعمه، نقول الشكر بقدر الطاقة البشرية هو الواقع وقليل فاعله، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أو نقول الشاكر التام ليس إلا من رضي الله عنه، وقال له: يا عبدي ما أتيت به من الشكر القليل قبلته منك وكتبت لك أنك شاكر لأنعمي بأسرها، وهذا القبول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها.