التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
٤٦
-سبأ

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

ذكر الأصول الثلاثة في هذه الآية بعد ما سبق منه تقريرها بالدلائل فقوله: { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ } إشارة إلى التوحيد وقوله: { مَا بِصَـاحِبِكُمْ مّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ } إشارة إلى الرسالة وقوله: { بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } إشارة إلى اليوم الآخر وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله: { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوٰحِدَةٍ } يقتضي أن لا يكون إلا بالتوحيد، والإيمان لا يتم إلا بالاعتراف بالرسالة والحشر، فكيف يصح الحصر المذكور بقوله: { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوٰحِدَةٍ } فنقول التوحيد هو المقصود ومن وحد الله حق التوحيد يشرح الله صدره ويرفع في الآخرة قدره فالنبـي صلى الله عليه وسلم أمرهم بما يفتح عليهم أبواب العبادات ويهيء لهم أسباب السعادات، وجواب آخر وهو أن النبـي صلى الله عليه وسلم ما قال إني لا آمركم في جميع عمري إلا بشيء واحد، وإنما قال أعظكم أولاً بالتوحيد ولا آمركم في أول الأمر بغيره لأنه سابق على الكل ويدل عليه قوله تعالى: { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } فإن التفكر أيضاً صار مأموراً به وموعوظاً.

المسألة الثانية: قوله: { بِوٰحِدَةٍ } قال المفسرون أنثها على أنها صفة خصلة أي أعظكم بخصلة واحدة، ويحتمل أن يقال المراد حسنة واحدة لأن التوحيد حسنة وإحسان وقد ذكرنا في قوله تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ } [النحل: 29] أن العدل نفي الإلهية عن غير الله والإحسان إثبات الإلهية له، وقيل في تفسير قوله تعالى: { { هَلْ جَزَاء ٱلإحْسَـٰنِ إِلاَّ ٱلإحْسَـٰنُ } [الرحمن: 60] أن المراد هل جزاء الإيمان إلا الجنان، وكذلك يدل عليه قوله تعالى: { { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ٱللَّهِ } [فصلت: 33].

المسألة الثالثة: قوله: { مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ } إشارة إلى جميع الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو يكون وحده، فإذا كان مع غيره دخل في قوله: { مَثْنَىٰ } وإذا كان وحده دخل في قوله: { فُرَادَىٰ } فكأنه يقول تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله.

المسألة الرابعة: قوله: { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } يعني اعترفوا بما هو الأصل والتوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعد ما بان وظهر، ثم تتفكروا فيما أقول بعده من الرسالة والحشر، فإنه يحتاج إلى تفكر، وكلمة ثم تفيد ما ذكرنا، فإنه قال: { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } ثم بين ما يتفكرون فيه وهو أمر النبـي عليه السلام فقال: { مَا بِصَـاحِبِكُمْ مّن جِنَّةٍ }.

المسألة الخامسة: قوله: { مَا بِصَـاحِبِكُمْ مّن جِنَّةٍ } يفيد كونه رسولاً وإن كان لا يلزم في كل من لا يكون به جنة أن يكون رسولاً، وذلك لأن النبـي عليه السلام كان يظهر منه أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر ممن تظهر منه العجائب إما الجن أو الملك، وإذا لم يكن الصادر من النبـي صلى الله عليه وسلم بواسطة الجن يكون بواسطة الملك أو بقدرة الله تعالى من غير واسطة، وعلى التقديرين فهو رسول الله، وهذا من أحسن الطرق، وهو أن يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي أخس الصفات، فإنه لو قال أولاً هو رسول الله كانوا يقولون فيه النزاع، فإذا قال ما هو مجنون لم يسعهم إنكار ذلك لعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه وبيانه فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة. ولهذا قال بعده { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ } يعني إما هو به جنة أو هو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير.

المسألة السادسة: قوله: { بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال ينذركم بعذاب حاضر يمسكم عن قريب بين يدي العذاب أي سوف يأتي العذاب بعده.