التفاسير

< >
عرض

وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً
٤٢
ٱسْتِكْبَاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ ٱلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً
٤٣
-فاطر

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

لما بين إنكارهم للتوحيد ذكر تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه حيث إنهم كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلاً وقالوا: إنما نكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم لكونه كاذباً، ولو تبين لنا كونه رسولاً لآمنا كما قال تعالى عنهم: { { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } [الأنعام:109] وهذا مبالغة منهم في التكذيب، كما أن من ينكر دين إنسان قد يقول والله لو علمت أن له شيئاً علي لقضيته وزدت له، إظهاراً لكونه مطالباً بالباطل، فكذلك ههنا عاندوا وقالوا والله لو جاءنا رسول لكنا أهدى الأمم فلما جاءهم نذير أي محمد صلى الله عليه وسلم جاءهم أي صح مجيؤه لهم بالبينة ما زادهم إلا نفوراً، فإنهم قبل الرسالة كانوا كافرين بالله وبعدها صاروا كافرين بالله ورسوله ولأنهم قبل الرسالة ما كانوا معذبين كما صاروا، بعد الرسالة وقال بعض المفسرين: إن أهل مكة كانوا يلعنون اليهود والنصارى على أنهم كذبوا برسلهم لما جاءوهم وقالو لو جاءنا رسول لأطعناه واتبعناه، وهذا فيه إشكال من حيث إن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر مطلقاً، فكيف كانوا يعترفون بالرسل، فمن أين عرفوا أن اليهود كذبوا وما جاءهم كتاب ولولا كتاب الله وبيان رسوله من أين كان يعلم المشركون أنهم صدقوا شيئاً وكذبوا في شيء؟ بل المراد ما ذكرنا أنهم كانوا يقولون نحن لو جاءنا رسول لا ننكره وإنما ننكر كون محمد رسولاً من حيث إنه كاذب ولو صح كونه رسولاً لآمنا وقوله: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ } أي فلما صح لهم مجيؤه بالمعجزة، وفي قوله: { أَهْدَىٰ } وجهان أحدهما: أن يكون المراد أهدى مما نحن عليه وعلى هذا فقوله: { مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ } للنبيين كما يقول القائل زيد من المسلمين ويدل على هذا قوله تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمُ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } أي صاروا أضل مما كانوا وكانوا يقولون نكون أهدى وثانيهما: أن يكون المراد أن نكون أهدى من إحدى الأمم كما يقول القائل زيد أولى من عمرو، وفي الأمم وجهان أحدهما: أن يكون المراد العموم أي أهدى من أي إحدى الأمم وفيه تعريض وثانيهما: أن يكون المراد تعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى ومن كان في زمانهم.

ثم قال تعالى: { ٱسْتِكْبَاراً فِي ٱلأَرْضِ } ونصبه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون حالاً أي مستكبرين في الأرض وثانيها: أن يكون مفعولاً له أي للاستكبار وثالثها: أن يكون بدلاً عن النفور وقوله: { وَمَكْرَ السَّيِّىء } إضافة الجنس إلى نوعه كما يقال علم الفقه وحرفة الحدادة وتحقيقه أن يقال معناه ومكروا مكراً سيئاً ثم عرف لظهور مكرهم، ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيء لكون السوء فيه أبين الأمور، ويحتمل أن يقال بأن المكر يستعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيّئَاتِ } [فاطر: 10] أي يعملون السيئات، ومكرهم السيء، وهو جميع ما كان يصدر منهم من القصد إلى الإيذاء ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار، ثم قال: { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } أي لا يحيط إلا بفاعله وفي قوله: { وَلاَ يَحِيقُ } وقوله: { إِلاَّ بِأَهْلِهِ } فوائد، أما في قوله: { يَحِيقُ } فهي أنها تنبـىء عن الإحاطة التي هي فوق اللحوق وفيه من التحذير ما ليس في قوله ولا يلحق أو ولا يصل، وأما في قوله: { بِأَهْلِهِ } ففيه ما ليس في قول القائل ولا يحيق المكر السيء إلا بالماكر، كي لا يأمن المسيء فإن من أساء ومكره سيء آخر قد يلحقه جزاء على سيئه، وأما إذا لم يكن سيئاً فلا يكون أهلاً فيأمن المكر السيء، وأما في النفي والإثبات ففائدته الحصر بخلاف ما يقول القائل المكر السيء يحيق بأهله، فلا ينبـىء عن عدم الحيق بغير أهله، فإن قال قائل: كثيراً ما نرى أن الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك، فنقول الجواب عنه من وجوه أحدها: أن المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبـي صلى الله عليه وسلم من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم، حيث قتلوا يوم بدر وغيره وثانيها: هو أن نقول المكر السيء عام وهو الأصح فإن النبـي عليه السلام نهى عن المكر وأخبر عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" وعلى هذا فذلك الرجل الممكور به (لا) يكون أهلاً فلا يرد نقضاً وثالثها: أن الأمور بعواقبها، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر ففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك وذلك مثل راحة الكافر ومشقة المسلم في الدنيا، ويبين هذا المعنى قوله تعالى: { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ } يعني إذا كان لمكرهم في الحال رواج فالعاقبة للتقوى والأمور بخواتيمها، فيهلكون كما هلك الأولون.

وقوله تعالى: { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ } أي ليس لهم بعد هذا إلا انتظار الإهلاك وهو سنة الأولين وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله بالأولين، فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجه دون وجه فيقال فيما إذا ضرب زيد عمراً عجبت من ضرب عمرو كيف ضرب مع ماله من العزم والقوة وعجبت من ضرب زيد كيف ضرب مع ماله من العلم والحكمة فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها سنة سنت بهم وأضافها إلى نفسه بعدها بقوله:

{ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } لأنها سنة من سنن الله، إذا علمت هذا فنقول أضافها في الأول إليهم حيث قال: { سنة الأَولين } لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيهما فإذا قال سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها إلى الله، لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظمها وتبين أنها أمر واقع ليس لها من دافع وثانيهما: أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار، وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال: أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنة لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقها.

المسألة الثانية: التبديل تحويل فما الحكمة في التكرار؟ نقول بقوله: { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } حصل العلم بأن العذاب لا تبديل له بغيره، وبقوله: { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } حصل العلم بأن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المسيء.

المسألة الثالثة: المخاطب بقوله: { فَلَن تَجِدَ } يحتمل وجهين وقد تقدم مراراً أحدهما: أن يكون عاماً كأنه قال فلن تجد أيها السامع لسنة الله تبديلاً والثاني: أن يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فكأنه قال: سنة الله أنه لا يهلك ما بقي في القوم من كتب الله إيمانه، فإذا آمن من في علم الله أنه يؤمن يهلك الباقين كما قال نوح: { { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ } [نوح:27] أي تمهل الأمر وجاء وقت سنتك.