التفاسير

< >
عرض

وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ
٦٩
-يس

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

في الترتيب وجهان، قد ذكرنا أن الله في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة، وهي الوحدانية والرسالة والحشر، ذكر الأصل الثالث منها، وههنا ذكر الأصلين الوحدانية والحشر، أما الوحدانية ففي قوله تعالى: { { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى آدم أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ } [يسۤ: 60] وفي قوله: { { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [يسۤ: 61] وأما الحشر ففي قوله تعالى: { { ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ } [يسۤ: 64] وفي قوله: { { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوٰهِهِمْ } [يسۤ: 65] إلى غير ذلك، فلما ذكرهما وبينهما ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال: { وَمَا عَلَّمْنَـٰهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ } وقوله: { وَمَا عَلَّمْنَـٰهُ ٱلشِّعْرَ } إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يعلمه ما لم يرد، وفي تفسير الآية مباحث:

البحث الأول: خص الشعر بنفي التعليم، مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشياء من جملتها السحر، ولم يقل وما علمناه السحر وكذلك كانوا ينسبونه إلى الكهانة، ولم يقل وما علمناه الكهانة، فنقول: أما الكهانة فكانوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إليها عندما كان يخبر عن الغيوب ويكون كما يقول. وأما السحر: فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكلم الحصى والجذع وغير ذلك. وأما الشعر: فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلوا القرآن عليهم لكنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتحدى إلا بالقرآن، كما قال تعالى: { { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23] إلى غير ذلك، ولم يقل إن كنتم في شك من رسالتي فأنطقوا الجذوع أو أشبعوا الخلق العظيم أو أخبروا بالغيوب، فلما كان تحديه صلى الله عليه وسلم بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم.

البحث الثاني: ما معنى قوله: { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } قلنا: قال قوم ما كان يتأتى له، وآخرون ما يتسهل له حتى أنه إن تمثل بيت شعر سمع منه مزاحفاً يروى أنه كان يقول صلى الله عليه وسلم: "ويأتيك من لم تزود بالأخبار" . وفيه وجه أحسن من ذلك وهو أن يحمل ما ينبغي له على مفهومه الظاهر وهو أن الشعر ما كان يليق به ولا يصلح له، وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن، فالشارع يكون اللفظ منه تبعاً للمعنى، والشاعر: يكون المعنى منه تبعاً للفظ، لأنه يقصد لفظاً به يصح وزن الشعر أو قافيته فيحتاج إلى التحيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ، وعلى هذا نقول: الشعر هو الكلام الموزون الذي قصد إلى وزنه قصداً أولياً، وأما من يقصد المعنى فيصدر موزوناً مقفى فلا يكون شاعراً، ألا ترى إلى قوله تعالى: { { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران: 92] ليس بشعر، والشاعر إذا صدر منه كلام فيه متحركات وساكنات بعدد ما في الآية تقطيعه بفاعلاتن فاعلاتن يكون شعراً لأنه قصد الإتيان بألفاظ حروفها متحركة وساكنة كذلك والمعنى تبعه، والحكيم قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ، وعلى هذا يحصل الجواب عن قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بيت شعر وهو قوله:

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

أو بيتين لأنا نقول ذلك ليس بشعر لعدم قصده إلى الوزن والقافية، وعلى هذا لو صدر من النبي صلى الله عليه وسلم كلام كثير موزون مقفى لا يكون شعراً، لعدم قصده اللفظ قصداً أولياً، ويؤيد ما ذكرنا أنك إذا تتبعت كلام الناس في الأسواق تجد فيه ما يكون موزوناً واقعاً في بحر من بحور الشعر ولا يسمى المتكلم به شاعراً ولا الكلام شعراً لفقد القصد إلى اللفظ أولاً، ثم قوله تعالى: { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ } يحقق ذلك المعنى أي هو ذكر وموعظة للقصد إلى المعنى، والشعر لفظ مزخرف بالقافية والوزن وههنا لطيفة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الشعر لحكمة" يعني: قد يقصد الشاعر اللفظ فيوافقه معنى حكمي كما أن الحكيم قد يقصد معنى فيوافقه وزن شعري، لكن الحكيم بسبب ذلك الوزن لا يصير شاعراً والشاعر بسبب ذلك الذكر يصير حكيماً حيث سمي النبي صلى الله عليه وسلم شعره حكمة، ونفى الله كون النبي شاعراً، وذلك لأن اللفظ قالب المعنى والمعنى: قلب اللفظ وروحه فإذا وجد القلب لا نظر إلى القالب، وفيكون الحكيم الموزون كلامه حكيماً، ولا يخرجه عن الحكمة وزن كلامه، والشاعر الموعظ كلامه حكيماً.