التفاسير

< >
عرض

وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ
٧٣
وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ
٧٤
وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٧٥
-الزمر

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب في الآية المتقدمة، شرح أحوال أهل الثواب في هذه الآية، فقال: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً } فإن قيل السوق في أهل النار للعذاب معقول، لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب والشقاوة لا بدّ وأن يساقوا إليه، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع الكرامة والراحة والسعادة، فأي حاجة فيه إلى السوق؟

والجواب من وجوه الأول: أن المحبة والصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى: { { ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67] فإذا قيل لواحد منهم إذهب إلى الجنة فيقول: لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب، فحينئذٍ يجتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثاني: أن الذين اتقوا ربهم قد عبدوا الله تعالى لا للجنة ولا للنار، فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال الجمال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة، فلا جرم يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثر أهل الجنة البله وعليون للأبرار" فلهذا السبب يساقون إلى الجنة والرابع: أن أهل الجنة وأهل النار يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذ سيق إلى الحبس والقيد، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على الملوك، فشتان ما بين السوقين.

ثم قال تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } الآية، واعلم أن جملة هذا الكلام شرط واحد مركب من قيود: القيد الأول: هو مجيئهم إلى الجنة والقيد الثاني: قوله تعالى: { وَفُتِحَتْ أَبْوٰبُهَا } فإن قيل قال أهل النار فتحت أبوابها بغير الواو، وقال ههنا بالواو فما الفرق؟ قلنا الفرق أن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدماً على وصولهم إليها بدليل قوله { { جَنَّـٰتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ } [ص: 50] فلذلك جيء بالواو كأنه قيل: حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها. القيد الثالث: قوله { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـٰمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَـٰلِدِينَ } فبيّـن تعالى أن خزنة الجنة يذكرون لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث فأولها: قولهم { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ } وهذا يدل على أنهم يبشرونهم بالسلامة من كل الآفات وثانيها: قولهم { طِبْتُمْ } والمعنى طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا وثالها: قولهم { فَٱدْخُلُوهَا خَـٰلِدِينَ } والفاء في قوله { فَٱدْخُلُوهَا } يدل على كون ذلك الدخول معللاً بالطيب والطهارة، قالت المعتزلة هذا يدل على أن أحداً لا يدخلها إلا إذا كان طاهراً عن كل المعاصي، قلنا هذا ضعيف لأنه تعالى يبدل سيئاتهم حسنات، وحينئذٍ يصيرون طيبين طاهرين بفضل الله تعالى، فإن قيل فهذا الذي تقدم ذكره هو الشرط فأين الجواب؟ قلنا فيه وجهان الأول: أن الجواب محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني: أن الجواب هو قوله تعالى: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـٰمٌ عَلَيْكُـمْ } والواو محذوف، والصحيح هو الأول، ثم أخبر الله تعالى بأن الملائكة إذا خاطبوا المتقين بهذه الكلمات، قال المتقون عند ذلك { ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } في قوله { { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30] { وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ } والمراد بالأرض أرض الجنة، وإنما عبر عنه بالإرث لوجوه الأول: أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم عليه السلام، لأنه تعالى قال: { { وكلا منها رغداً حيث شئتما } [البقرة: 35] فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً لتسميتها بالإرث الثاني: أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل: هذا أورث كذا وهذا العمل أورث كذا فلما كانت طاعتهم قد أفادتهم الجنة، لا جرم قالوا { وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ } والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنة الثالث: أن الوارث يتصرف فيما يرثه كما يشاء من غير منازع ولا مدافع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة كيف شاءوا وأرادوا، والمشابهة علة حسن المجاز فإن قيل ما معنى قوله { حَيْثُ نَشَاء } وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلنا يكون لكل أحد جنة لا يحتاج معها إلى جنة غيره، قال حكماء الإسلام: الجنات نوعان، الجنات الجسمانية والجنات الروحانية فالجنات الجسمانية لا تحتمل المشاركة فيها، أما الروحانيات فحصولها لواحد لا يمنع من حصولها للآخرين، ولما بيّـن الله تعالى صفة أهل الجنة قال: { فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَـٰمِلِينَ } قال مقاتل ليس هذا من كلام أهل الجنة، بل من كلام الله تعالى لأنه لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده { فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَـٰمِلِينَ } ولما قال تعالى: { وَتَرَى ٱلْمَلَـٰئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ } ذكر عقيبه ثواب الملائكة فقال كما أن دار ثواب المتقين المؤمنين هي الجنة، فكذلك دار ثواب الملائكة جوانب العرش وأطرافه، فلهذا قال: { وَتَرَى ٱلْمَلَـٰئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ } أي محفين بالعرش. قال الليث: يقال حف القوم بسيدهم يحفون حفاً إذا طافوا به.

إذا عرفت هذا، فنقول بيّـن تعالى أن دار ثوابهم هو جوانب العرش وأطرافه ثم قال: { يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } وهذا مشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التحميد والتسبيح، وحينئذٍ رجع حاصل الكلام إلى أن أعظم درجات الثواب استغراق قلوب العباد في درجات التنزيه ومنازل التقديس.

ثم قال: { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقّ } والمعنى أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة، فلكل واحد منهم في درجات المعرفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه، وهو المراد من قوله { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقّ وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي الملائكة لما قضي بينهم بالحق قالوا الحمد لله ربّ العالمين على قضائه بيننا بالحق، وههنا دقيقة أعلى مما سبق وهي أنه سبحانه لما قضى بينهم بالحق، فهم ما حمدوه لأجل ذلك القضاء، بل حمدوه بصفته الواجبة وهي كونه رباً للعالمين، فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم وإنما حمد الإنعام، وأما من حمد المنعم لا لأنه وصل إليه النعمة فههنا قد وصل إلى لجة بحر التوحيد، هذا إذا قلنا إن قوله { وَتَرَى ٱلْمَلَـٰئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ } شرح أحوال الملائكة في الثواب، أما إذا قلنا إنه من بقية شرح ثواب المؤمنين، فتقريره أن يقال إن المتقين لما قالوا { ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء } فقد ظهر منهم أنهم في الجنة اشتغلوا بحمد الله وبذكره بالمدح والثناء، فبيّن تعالى أنه كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد، فكذلك حرفة الملائكة الذين هم حافون حول العرش الاشتغال بالتحميد والتسبيح، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة، وحينئذ يظهر منه أن المؤمنين المتقين وأن الملائكة المقربين يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتسبيحه، فكان ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بذلك التسبيح والتحميد.

ثم قال: { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقّ } أي بين البشر، ثم قال: { وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } والمعنى أنهم يقدمون التسبيح، والمراد منه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بالإلهية.

وأما قوله تعالى: { وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فالمراد وصفه بصفات الإلهية، فالتسبيح عبارة عن الاعتراف بتنزيهه عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال، وقوله { وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } عبارة عن الإقرار بكونه موصوفاً بصفات الإلهية وهي صفات الإكرام، ومجموعهما هو المذكور في قوله { { تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ ذِى ٱلْجَلَـٰلِ وَٱلإكْرَامِ } [الرحمن: 78] وهو الذي كانت الملائكة يذكرونه قبل خلق العالم وهو قولهم { { وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ } [البقرة: 30] وفي قوله { وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } دقيقة أخرى وهي أنه لم يبين أن ذلك القائل من هو، والمقصود من هذا الإبهام التنبيه، على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة الجلال والكبرياء ليس إلا أن يقولوا { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وتأكد هذا بقوله تعالى في صفة أهل الجنة { { دَعْوٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [يونس: 10].