التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ
٨
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٩
-الزمر

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن الله تعالى لما بين فساد القول بالشرك وبين أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد، بين في هذه الآية أن طريقة هؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام متناقضة وذلك لأنهم إذا مسهم نوع من أنواع الضر لم يرجعوا في طلب دفعه إلا إلى الله، وإذا زال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة الأصنام ومعلوم أنهم إنما رجعوا إلى الله تعالى عند حصول الضر، لأنه هو القادر على إيصال الخير ودفع الضر، وإذا عرفوا أن الأمر كذلك في بعض الأحوال كان الواجب عليهم أن يعترفوا به في كل الأحوال فثبت أن طريقتهم في هذا الباب متناقضة.

أما قوله تعالى: { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ } فقيل المراد بالإنسان أقوام معينون مثل عتبة بن ربيعة وغيره، وقيل المراد به الكافر الذي تقدم ذكره، لأن الكلام يخرج على معهود، تقدم.

وأما قوله { ضُرٌّ } فيدخل فيه جميع المكاره سواه كان في جسمه أو في ماله أو أهله وولده، لأن اللفظ مطلق فلا معنى للتقييد { ودعاَ رَبَّهُ } أي استجار بربه وناداه ولم يؤمل في كشف الضر سواء، فلذلك قال: { مُنِيباً إِلَيْهِ } أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك الضر لأن الإنابة هي الرجوع { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ } أي أعطاه، قال صاحب «الكشاف»: وفي حقيقته وجهان أحدهما: جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال، إذا كان متعهداً له حسن القيام به ومنه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة" والثاني: جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر، وفي المعنى قالت العرب:

إن الغنى طويل الذيل مياس

ثم قال تعالى: { نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه، وما بمعنى من كقوله تعالى: { { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [الليل: 3] وقوله تعالى: { { وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [الكافرون: 3] وقوله تعالى: { { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء } [النساء: 3] وقيل نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه والمراد من قوله نسي أن ترك دعاءه كأنه لم يفزع إلى ربه، ولو أراد به النسيان الحقيقي لما ذمه عليه، ويحتمل أن يكون المراد أنه نسي أن لا يفزع، وأن لا إله سواه فعاد إلى اتخاذ الشركاء مع الله.

ثم قال تعالى: { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليضل بفتح الياء والباقون ليضل بضم الياء على معنى ليضل غيره.

المسألة الثانية: المراد أنه تعالى يعجب العقلاء من مناقضتهم عند هاتين الحالتين، فعند الضر يعتقدون أنه لا مفزع إلى ما سواه وعند النعمة يعودون إلى اتخاذ آلهة معه. ومعلوم أنه تعالى إذا كان إنما يفزع إليه في حال الضر لأجل أنه هو القادر على الخير والشر، وهذا المعنى باق في حال الراحة والفراغ كان في تقرير حالهم في هذين الوقتين بما يوجب المناقضة وقلة العقل.

المسألة الثالثة: معنى قوله: { لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } أنه لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه بل يدعو غيره إما بفعله أو قوله إلى أن يشاركه في ذلك، فيزداد إثماً على إثمه، واللام في قوله { لِيُضِلَّ } لام العاقبة كقوله: { { فَٱلْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8] ولما ذكر الله تعالى عنهم هذا الفعل المتناقض هددهم فقال: { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } وليس المراد منه الأمر بل الزجر، وأن يعرفه قلة تمتعه في الدنيا، ثم يكون مصيره إلى النار.

ولما شرح الله تعالى صفات المشركين والضالين، ثم تمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح أحوال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا الله ولا اعتماد لهم إلا على فضل الله، فقال: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً وَقَائِماً } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وحمزة { آمن } مخففة الميم والباقون بالتشديد، أما التخفيف ففيه وجهان الأول: أن الألف ألف الاستفهام داخلة على من، والجواب محذوف على تقدير كمن ليس كذلك، وقيل كالذي جعل لله أنداداً فاكتفى بما سبق ذكره والثاني: أن يكون ألف نداء كأنه قيل يا من هو قانت من أهل الجنة، وأما التشديد فقال الفراء الأصل أم من فأدغمت الميم في الميم وعلى هذا القول هي أم التي في قولك أزيد أفضل أم عمرو.

المسألة الثانية: القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة صلاة القنوت" وهو القيام فيها. ومنه القنوت في الصبح لأنه يدعو قائماً. عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } وعن ابن عباس القنوت طاعة الله، لقوله: { { كُلٌّ لَّهُ قَـٰنِتُونَ } [البقرة: 116] أي مطيعون، وعن قتادة { آناء الليل } ساعات الليل أوله ووسطه وآخره، وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار، ويؤكده وجوه الأول: أن عبادة الليل أستر عن العيون فتكون أبعد عن الرياء الثاني: أن الظلمة تمنع من الإبصار ونوم الخلق يمنع من السماع، فإذا صار القلب فارغاً عن الاشتغال بالأحوال الخارجية عاد إلى المطلوب الأصلي، وهو معرفة الله وخدمته الثالث: أن الليل وقت النوم فتركه يكون أشق فيكون الثواب أكثر الرابع: قوله تعالى: { { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [المزمل: 6] وقوله: { سَـٰجِداً } حال، وقرىء ساجد وقائم على أنه خبر بعد خبر الواو للجميع بين الصفتين.

واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العلم وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فكونه قانتاً ساجداً قائماً، وأما العلم فقوله: { هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية والعلم والمكاشفة هو النهاية.

الفائدة الثانية: أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظباً عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائماً بما يجب عليه من الطاعات، وذلك يدل على أن العلم إنما يفيد إذا واظب عليه الإنسان، وقوله: { سَـٰجِداً وَقَائِماً } إشارة إلى أصناف الأعمال وقوله: { يَحْذَرُ ٱلأَخِرَةَ وَيَرْجُو رَّحْمَةِ رَبّهِ } إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة ينكشف له في الأول مقام القهر وهو قوله: { يَحْذَرُ ٱلأَخِرَةَ } ثم بعده مقام الرحمة وهو قوله: { وَيَرْجُو رَّحْمَةِ رَبّهِ } ثم يحصل أنواع المكاشفات وهو المراد بقوله: { هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }.

الفائدة الثالثة: أنه قال في مقام الخوف { يَحْذَرُ ٱلأَخِرَةَ } فما أضاف الحذر إلى نفسه، وفي مقام الرجاء أضافه إلى نفسه، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأليق بحضرة الله تعالى.

المسألة الثالثة: قيل المراد من قوله: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ } عثمان لأنه كان يحيي الليل في ركعة واحدة ويقرأ القرآن في ركعة واحدة، والصحيح أن المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة فيدخل فيه عثمان وغيره لأن الآية غير مقتصرة عليه.

المسألة الرابعة: لا شبهة في أن في الكلام حذفاً، والتقدير أمن هو قانت كغيره، وإما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر وذكر بعدها: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } وتقدير الآية قل هل يستوي الذين يعلمون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل سجداً وقياماً، والذين لا يعلمون وهم الذين وصفهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغة يشركون، فإذا قدرنا هذا التقدير ظهر المراد وإنما وصف الله الكفار بأنهم لا يعلمون، لأنهم وإن آتاهم الله العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم، فلهذا السبب جعلهم كأنهم ليسوا أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم.

وأما قوله تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } فهو تنبيه عظيم على فضيلة العلم، وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: { { وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلأَسْمَاء كُلَّهَا } [البقرة: 31] قال صاحب «الكشاف» أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون، وبالذين لا يعلمون الذين لا يأتون بهذا العمل كأنه جعل القانتين هم العلماء، وهو تنبيه على أن من يعمل فهو غير عالم، ثم قال وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون، ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة.

ثم قال تعالى: { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } يعني هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضاً إلا أولوا الألباب، قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء، فأجاب العالم بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.